ثقافة وفن

باق في الذاكرة

| د. اسكندر لوقــا

لا أعتقد أن أحداً منا يمكن أن يقنع نفسه أو يقنع سواه بأن الحياة يمكن أن يعيشها الإنسان من دون هدف، بمعنى أن يعيش وكفى، إن إنساناً من هذا الطراز إذا وجد على الأرض لا هم له سوى الأكل والشرب والنوم، هو بذلك يعيش بلا أمل أو مستقبل ينتظره، ذلك لأن الغاية من الحياة لا بد أن ترتبط بهدف يسعى الإنسان إلى تحقيقه، بغض النظر عن نوع الهدف أو حجمه، وإن يكن يتطلب الأمر أن يكون هدفا ساميا من حيث المبدأ، بمعنى أن يكون ذا نفع عام لا خاص.
في تاريخ البشرية، منذ بدايته وسيبقى كذلك حتى نهايته، العديد من أبنائها، رجالاً ونساء، ارتبطت بعض صفحاته بأسمائهم وبما قدموه للآخر، وما زالوا باقين في الذاكرة الجمعية للبشرية، على الرغم من رحيلهم بزمن غابر. إن أهمية الإنسان تكمن فيما هو قادر على عطائه لمصلحة غيره من منطلق السلوك الغيري لا النفعي. وبهذا المنحى يحقق حضوره الدائم بين الناس وإن يكن حضوراً غير مادي.
إن الحياة لا تعد بالسنوات التي يعيشها الإنسان بل بما خلف وراءه من أثر كان له وقعه في الحياة العملية لا النظرية فقط، لأن النظرية فعل معنوي على حين العمل فعل مادي وتبقى له بصمة تدل عليه إلى زمن غير محدود، وبهذا يبقى صاحب البصمة حاضرا في الذاكرة البشرية ويبقى ذكره دائما. ويزداد حضوره عمقا واتساعا بمقدار ما يكون الأثر الذي خلفه وراءه قابلا للحياة، كما الزرع في أرض خصبة كلما كانت قابلة للزراعة ازداد الزرع نضوجا وقابلاً للاستمرار والتفاعل مع الطبيعة. كذلك هو الفكر في مجتمع يقدر العطاء، وكذلك هو المفكر الجدير بالحياة في أي من الظروف القابلة للعيش مع الكلمة التي تحاكي المستقبل وخصوصاً عندما تكون امتدادا لماض مشرق أعطى البشرية ما تستحق من عوامل الرقي والتقدم.
من هنا تأخذ الحياة معناها، ولهذا الاعتبار يشار إلى أنها تتخطى مسألة الأكل والشرب والنوم، وبغير هذا التخطي تكون كحالة من يغادر بلده يقله قطار إلى بلد مجهول مروراً بأراض خالية إلا من جذوع أشجار حيث لا غصن أخضر ولا ورقة خضراء.
تلك هي الحياة الجافة بكل المقاييس، والجفاف من حالات الموت إن صحّ التشبيه لأنه يجمّد مسار الإنسان باتجاه ما يريد ويمحي طموحه ويجعله على هامش الحياة، الحياة من دون معنى لا أعتقد أنها تستحق هذا الوصف، لأنها تكون مجرّد كلمة لا دور لها ولا حضور على أرض الواقع بل تبقى مجرد كلمة في سطر لا لون له ولا طعم. باق في الذاكرة البشرية من كان صاحب بصمة لا تمّحي في سجل التاريخ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن