ثقافة وفن

«خيبانة» عرضُ مونودراما «طازج» لمحمّد قارصلي

| أحمد محمد السّح

لتعرفَ الدكتور محمّد قارصلي عليك أن تتابع مسيرته الغنية، ومنبته الثقافي، فهو نجلٌ لواحدة من أولى فنانات التشكيل في سورية «إقبال ناجي قارصلي»، التي أعطته نظرتها إلى الجمال الفني فصار هدفهُ أن يدرس الإخراج السينمائي، فسافر إلى موسكو، لتحقيق الهدف الذي تضخّم على خشبة عرض مشروعِ تخرّجه، حينما تم ترشيحهُ من لجنة التحكيم لإكمال رسالة الدكتوراه، فتابع المسيرة، وحصل على الشهادة، واستمر في متابعة التحصيل العلمي ليتنقل بين الإخراج السينمائي ومن ثم المسرحي، وليكتب ثلاثة أعمال للتلفزيون هي (أيام الغضب– العودة إلى الأمام – وحكاية الدرب الطويل)، وتستمر المسيرة عبر سنواته في إصدار الكتب والعروض المسرحية والسينمائية التي بلغت العشرات متابعاً المواهب الشابة في سورية لإيمانه العميق أن كنز سورية ليس ثرواتها الاقتصادية فحسب، بل الثروة البشرية التي لا بدّ من استثمارها، ومنح الفرص للشباب، وهذا القول قد طبقه خلال رحلته المهنية، ولم يتوانَ عن تطبيقه على خشبة مسرح القباني في عرض «خيبانة» الذي حمّل فيه عرض مونودراما، لشابةٍ هاوية غير أكاديمية، هي ماريانا حداد، التي كانت تشعّ بالطاقة والحيوية.
يخشى كثيرٌ من الممثلين المحترفين، والمخرجين المسرحيين من خوض تجربة المونودراما، لأسباب تتعلق بشكلٍ أساسي بالنص، ومن ثم قدرة الجذب من خلال ضبط المفاصل الزمنية التي يجب أن تضخّ الطاقة على الخشبة طوال مدة العرض. وهو ما قد يفقده أي ممثل، ما يؤدي إلى نفور الجمهور وسقوط العرض. ولكن محمد قارصلي المتسلح بأكاديميته، سار على الخط الخطر فأخرج عرض مونودارما مع فنانةٍ شابة في الوقت نفسه، ويمكن تصنيف هذا العرض بأنه عرضُ مونودراما طويل لأنه تجاوز الأربعين دقيقة، وهذه ربما تؤخذ على العرض، فالفصل الأول فيه- أن أمكن تقسيمه إلى فصول- منح الجمهور انطباعاً أن الحالات التي تعرضها الممثلة يمكن أن تتواصل إلى ما لانهاية، مع أن الجذب الأول تحقق فوراً حين أظهر المخرج شخصيةً مختلفة ومحببة لدينا جميعاً، تسكن في عقلنا الباطن للحكايات الطفولية، وتعيش في زوايا مجتمعاتنا من دون نسيان حتى اليوم، إنها شخصية الساحرة. وهنا يمكن أن نقول إن الارتياح الأول للعرض تحقق حين ابتعد المخرج عن فكرة الإنسان المعزول الذي أثرت فيه الحرب، وهذه السمة طبعت عروض المونودراما خلال السنوات الأخيرة إلا قلائل منها. أما أن يأتي بشخصية مختلفة متقنة الماكياج والملابس للفنانة «سهى العلي» ذات البصمة المتميّزة، والتي استطاعت أن تركّب للشخصية ثلاثة وجوه مختلفة مع الانتقال بين الحالات الثلاث التي انتقل معها الجمهور مشدوداً، رغم أن المفاصل كان يمكن أن تكون أكثر ضبطاً من حيث الأداء، ففي الوجه الأول ظهرت الشخصية بكلاسيكية الساحرة الشريرة وهو وجه الحكايات التقليدي، وفي الوجه الثاني ظهرت بشكل آلة النصب التي تتلاعب بالعقول، وهو الوجه الاجتماعي لها، أما الوجه الثالث فهو وجه الإنسان «سحر» لا «خيبانة»، التي درست الصيدلة وأفادت من دراستها التي لم تكملها في السحر والشعوذة، لكنها لم تلجأ إلى هذا الأمر إلا حينما جرتها الخيبةُ إليها. إنها خيبة الحبّ التي تدفعنا للكذب على أنفسنا حتى نواجه ذاتنا في لحظة صدق، وهو ما يشرحهُ الدكتور قارصلي في كلمته كمخرج: (في الحياة نكذبُ كثيراً، وأكثر ما نصدّقهُ هو ما نكذبه على أنفسنا، «خيبانة» هي محاولةُ كذبٍ فاشلة، أتت إنقاذاً لروحٍ حطمتها الحياة ومجرياتُ ما يحدث لنا ومعنا، ثم تأتي لحظة وقوفنا مع ذاتنا، حينما نكتشفُ فداحة جرم الكذب الذي ارتكبناه).
قدّم العرضُ حكايةً جديدةً وفتح نافذةً مختلفة لشخصيات المونودراما خارجاً من شخصيات السجين السياسي أو الكاتب أو الفنان المعزول، أو سواهم، فقدّم إنساناً تلبس وجهاً مختلفاً وعمل العرض في زمنيته على تقشير هذه الشخصية مضيفاً إلى الأجواء جو المرح من خلال خطاب الممثلة مع الأدوات التي تتعاملُ معها كساحرة، والتي توجّهت إلى الحصول على المال من خلال عرض الشخصيات التي تلجأ إلى السحر، وهنا يمكن أن نقول –وإن كان هذا تدخلاً غير مبررٍ في النص من قبلنا– بأن الشخصيات التي تضعفُ أمام السحرِ كثيرةً وأن أضعفها إظهاراً على الخشبة، شخصيةُ المهووس بعشق الفنانات، على حين شخصيةُ الفاسد أو العاشق المخدوع فقد بدتا جذابتين وساهمتا في إغناء العرض، وقد جهدت الممثلة على ملء فراغ الخشبة من دون ابتذال أو حركات غير مبررة، مع التأكيد أن خبرتها في المستقبل ستتوثق مع مزيدٍ من العروض والاشتغالات التي تضبط صوتها وروحها للسيطرة على تفاصيل الشخصية وإن كان اجتهادها واضحاً لا لبس فيه، ولا بدّ من الاعتراف أن عرض «خيبانة» سيحرّك عروض المونودراما ليدفع بها باتجاهات مختلفة، فتخرج من عباءة التكرار والقولبة والشعارات، أو الهوس كسمة خاصة لكل الذين يتكلّمون مع أنفسهم. آملين أن يكون العرض حاملاً مزيداً من العطاءات من الدكتور قارصلي الذي احتضنت فنه المؤسسات الإنسانية العالمية أكثر من المؤسسات الخاصة والرسمية السورية، مع موهبة «مريانا حداد» السورية الشابة التي ستصقل التجارب المسرحية فطرتها الفنية في قادم الأيام من دون شكّ.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن