قضايا وآراء

حراك الشمال سيحدد مصير الشرق

| عبد المنعم علي عيسى

في ضوء المعطيات التي يشي بها الميدان وكذا تلك التي تشي بها دوائر السياسة وقنوات الاتصال يتبدى أن العملية العسكرية التي ينفذها الجيش السوري في «مثلث الشمال» الذي يضم أرياف حماة وإدلب واللاذقية المتلاصقة سوف تقتصر على قصم ظهير الإرهاب دون اقتلاعه من جذوره على حين من المرجح أن يتضح أمراً من هذا النوع الأخير في الفترة التي تلي منتصف تموز المقبل فصاعداً.
بعد مرور أسبوعين على بدء عملية الجيش السوري استطاع من خلالها تحقيق مكاسب مهمة كانت أبرزها السيطرة على معقل جبهة النصرة الأهم الذي كانت تمثله قلعة المضيق يوم الخميس الماضي والتمكين في محيطها بتل هواش والكركات سريعاً بعد أن استطاع دك مواقع متقدمة في كفر نبودة، بات من الممكن القول إن إدلب أضحت في مرمى النار من الناحية العسكرية، إلا أن معوقات «التدويل» تبدو غاية في التعقيد، وهي ستدفع على الأرجح نحو أن تقف عملية الجيش بعيد تحقيق مهمتين أساسيتين أولاهما إبعاد معاقل النصرة وملحقاتها عن تهديد ريفي اللاذقية وحماة وهو ما تحقق حتى الآن والشاهد هو أن قاعدة حميميم كانت قد أحيت عيد النصر على النازية يوم 9 أيار في مؤشر على إبطال مفعول التهديد سابق الذكر، وثانيهما فتح الطريقين الدوليين أم 5 وأم 4 اللذين يربطان إدلب بكل من حماة واللاذقية على التوالي وللأمر أبعاده الاقتصادية المهمة بالإضافة إلى أبعاده السياسية بالغة الأهمية أيضاً، وفي ذاك تقول تقارير إن أنقرة عرضت مؤخراً وقفاً لإطلاق النار في مقابل تعهدها العمل على فتح ذينك الطريقين دون أن يلقى العرض التركي قبولاً ما يسجل حالة تفضيل سورية روسية على تحصيل ذلك في الميدان بدلاً من تحصيله عبر الصفقات لاعتبارات تتعلق بحساسية وضع إدلب الراهن وما سترسمه معاركها، وكذا توافقاتها، لمعالم الشرق الذي بات مصيره محتوماً عبر ذينك الأمرين.
عاشت موسكو مرحلة صبر إستراتيجي طويل ومارست صوماً دام ثمانية أشهر منذ أن وقعت مع أنقرة اتفاق سوتشي منتصف أيلول الماضي، وعلى الرغم من أن الأخيرة لم تتقدم ولو بخطوة واحدة نحو تنفيذ بنود ذلك الاتفاق، إلا أنها، أي موسكو، فضلت التريث لحسابات تولي من خلالها أهمية قصوى لعلاقتها مع الأتراك، فالرهان الروسي كان ولا يزال، مع انحسار واضح في سحبه الممطرة، منصباً على تفعيل قطب المغناطيس الروسي أو وضعه في مجال القدرة على جذب «الدبابيس» التركية بدرجة أكبر من تلك التي يستطيعها قطب المغناطيس الأميركي الساعي هو الآخر نحو الهدف عينه، أما ظهور النتائج فهو لن يعلن قبيل منتصف شهر تموز المقبل الموعد المقرر لدخول منظومة صواريخ إس 400 الروسية الصنع إلى الأراضي التركية، وهو الأمر الذي ترى فيه موسكو، على حين لو حصل، نحراً لجدارات الناتو المتعالية بالقرب منها، وتقليصاً لفضاءات إف35 في محيطها، على حين الرهان الأميركي على إبطال مفعول الصفقة باق وهو سيظل كذلك مع تسجيل حالة استعداد لا يعرف مداها ولا إلى أين يمكن أن تصل في تقديم مزيد من الإغراءات أو حتى التنازلات التي احتوى أرشيفها حتى الآن تصريحاً لمستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون قبل أسابيع جاء فيه: «لا شيء يمنع تركيا من البقاء في إدلب على غرار بقائها منذ العام 1974 في شمال قبرص»، كما احتوى على «مرونة» بعد تصلب دام سبع سنوات كان قد أظهرها المبعوث الأميركي الخاص بسورية جيمس جيفري بشأن «المنطقة الآمنة» في الشمال السوري إبان مفاوضاته الماراتونية التي يجريها بشأنها مع المسؤولين الأتراك.
كان موعد 23 حزيران الذي حددته اللجنة العليا للانتخابات في أنقرة لإعادة الانتخابات البلدية في اسطنبول فاضحاً، وهو يلحظ إبقاء آمال الصيادين الروسي والأميركي قائمة في إمكان اصطياد السمكة بل يترك حظوظهما متساوية فيها، إلا أنه يعزز أيضاً شكوك كليهما في طبيعة الطعم الوهمي الذي يستطيع الصياد سحبه في أي لحظة يريدها، فمن الواضح أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قد أراد تمرير معركة اسطنبول الانتخابية، التي باتت بعد قرار إعادتها أكثر من مصيرية، في ظل حدود دنيا من ضغوطات الخارج أو تسكين لجبهات هذا الأخير بعد أن فتحت حال تردي الاقتصاد الأبواب التركية على مصاريعها مؤخراً واضعة النظام السياسي القائم برمته أمام حال من التهتك واضحة، ولا أدل على ذلك من التقارير التي تشير إلى فتح قنوات اتصال سرية عبر المبعوث جيمس جيفري مع حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) في محاولة ترمي إلى إبعاد حزب الشعوب الديمقراطي التركي عن مرشح المعارضة أكرم أمام أوغلو ما يشير إلى مدى حرج الموقف تجاه معركة 23 حزيران المقبلة، قياساً إلى خطورة «السكين» المستخدمة في ذبح الخصم، فمن يتفاوض معهم أردوغان الآن هم «إرهابيون» وفق لوائحه وكذا لوائح حكومته، وهذا بالتأكيد من المحرمات التي لا تشملها قاعدة أن الضرورات تبيح المحظورات، وإذا ما كسبت المعارضة معركة اسطنبول ثانية، وهذا هو الأرجح بل شبه المؤكد حتى الآن، واستطاعت توثيق تفاوض أردوغان مع PYD الذي سينتقل حتماً، إن لم يكن قد انتقل، إلى المباشرة في مرحلة لاحقة، فإن ذلك سيؤدي بهذا الأخير إلى أحد مصيرين أحدهما المصير الذي لقيه عدنان مندريس الذي انتهى إلى حبل مشنقة في جزيرة إيمرالي 1961 أو ذاك الذي لقيه عبد الله أوجلان القابع منذ العام 1999 في سجن فيها.
رصد البيان الصادر عن اجتماع المجموعة المصغرة في جنيف في 6 أيار الجاري، وكذا جلسة مجلس الأمن يوم الجمعة الماضي، صوتاً خافضاً ملحوظاً، ولم تصدر عن أي منهما أي إشارات توحي إلى معارضة العمليات التي يقوم بها الجيش السوري في مثلث الشمال، والمؤكد أن ذلك لا ينفصل عن مفاوضات واشنطن مع أنقرة بشأن المنطقة الآمنة التي إن نجحت، وهذا هو الراجح حتى الآن ما لم تظهر مفاجآت، فإن ذلك سيكون راسماً لدور تركي ثقيل على تطورات الأزمة، وكذا التسوية، وهو سيؤدي إلى توغل تركي في شمال حلب للقضاء على الجيب الكردي القابع فيه في إتمام لمرحلة ثالثة من المراحل التي سلكت أنقرة اثنتان منها حتى الآن كانتا تهدفان إلى تمزيق أوصال «روج آفا» الأولى كانت في العام 2016 عندما دخلت قوات تركية إلى مناطق يسيطر عليها الأكراد شرق الفرات، والثانية كانت في شباط من العام 2018 عندما اقتحمت قوات تركية مدينة عفرين لوقف التمدد الكردي الرامي حينها للوصول إلى بلدة «السمرا» أقصى شمال اللاذقية على البحر المتوسط.
يتحمل الأكراد السوريون مسؤولية تاريخية تجاه الكثير مما يجري اليوم، وسيجري لاحقاً، وهم على مر تاريخهم لم يسجلوا نجاحاً ولو واحداً في التقاط اللحظة التاريخية، واللحظة هنا تعني مدة زمنية شديدة القصر يتم من خلالها تحديد الذروة التي سيتخذ الخط البياني بعدها مساراً هابطاً، الأمر الذي يفسر تتالي مسلسل الانهيارات لديهم على امتداد قرن كامل وكذا على امتداد الجغرافيا التي يتوزعون عليها، والراجح أن ذلك يعود إلى افتقاد الذات الكردية لأدنى درجات المرونة بل يصح القول إن كل القوى والتيارات السياسية الكردية مصابة بداء المحافظة السياسية الذي تختصره قاعدة «إما كل شيء وإما لا شيء» وهذا يمكن تفسيره عبر التجارب السياسية الناقصة والمتقطعة التي مر بها المكون الكردي على امتداد قرون ما حتم غياب ثلاثية: الماضي- الحاضر- المستقبل، التي تقي الذات عادة من داء المحافظة السياسية سابق الذكر.
سيهزم المشروع الكردي حتماً لأنه خارج حقائق الجغرافيا وكذا خارج حقائق التاريخ، ولأن جل ما يقوم عليه هو نسج على منوال قديم سبق أن نسج عليه هرتزل، إلا أن هذا النول قد لاكته السنون وخبرته، هو والمنسوجات التي تنجم عنه، شعوب المنطقة جيداً، ناهيك عن أن الرهان على استنساخ النموذج الإسرائيلي هو ضرب من الجنون فعدا عن أن تركيبة المنطقة الجريح لا تحتمل «إسرائيلين»، فإن ذاك لا يقع في صلب إستراتيجيات الغرب في المنطقة ولا نية لديه لمد حبل مشيمة آخر نحوها سيكون باهظ التكاليف.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن