ثقافة وفن

المدرسة العادلية الكبرى بدمشق صرحٌ ثقافي شامخ … تولى فيها التدريس قاضي القضاة وصارت محكمة للقضاء وكان فيها أعلام الأدب واللغة

| نبيل تللو

في كلِّ مرة أتجول بمدينة دمشق القديمة، التي تبهرني بأحيائها الضيقة ومبانيها الفخمة ذات الواجهات الحجرية والبوابات الواسعة، تستوقفني متأملاً بتاريخها العريق، ومنها «المدرسة العادلية الكبرى»، الواقعة في حي «باب بريد» قرب الجامع الأموي، تجاه المكتبة الظاهرية، وفي هذه المقالة تعريفٌ لكرام القارئات والقراء بهذه المدرسة تاريخاً وحاضراً، آملاً أن يتذكروا ما نسوه، وأن يتعرفوا على ما لا يعرفونه.

المدرسة ذات بناءٍ حجري منحوت وسقفٍ خشبي، لها أربع واجهات طول الواحدة منها نحو خمسين متراً، تخترق الشرقية منها بوابة كبيرة تؤدي إلى دهليز يفضي بدوره إلى باحة كبيرة يتوسطها بركة ماء، وتحيط بالباحة الغرف الإدارية والدراسية الموزعة على طابقين يصل بينهما أدراجٌ حجرية، وكامل المبنى يمثِّل نموذجاً رائعاً عن عمارة الفترة الأيوبية. يُشار إلى أنها مدرجة منذ عام 1979 في لائحة التراث الثقافي العالمي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) على اعتبار أنها جزءٌ من مدينة دمشق القديمة.
بدأ بإنشاء المدرسة العادلية الكبرى عام 568 هـ، 1173 م الملك «نور الدين محمود بن زنكي» (511 – 569هـ، 1117 – 1173م)، ولم يرتفع من بنيانها إلا القليل عند وفاته. ثم جاء الملك «العادل الأيوبي سيف الدين أبو بكر أحمد» (539 – 615هـ، 1144 – 1218م) أخو السلطان صلاح الدين الأيوبي فزاد في رقعتها، وأرادها مدرسة ضخمة فخمة جامعة، ودعيت باسمه، غير أن المنية عاجلته قبل إتمامها، ودُفِنَ بقلعة دمشق، وقام ابنه الملك المعظم عيسى بن العادل (578 – 624هـ، 1180 – 1227م)، الذي حكم دمشق بين عامي (615 – 624هـ، 1218 – 1227م)، بإتمام عمارتها وأوقف لها أوقافاً واسعة، ونقل في عام 619 هـ – 1222 م، وهو العام الذي افتتحت به المدرسة، رفات والده من قلعة دمشق ودُفِن في تربةٍ تعلوها قبة حجرية، وما زال الضريح حتى اليوم، وسُمِّيت المدرسة باسمه: «المدرسة العادلية الكبرى» وما زالت تحمل الاسم نفسه حتى اليوم.
كان الملك المعظم مغرماً باللغة العربية وآدابها، فأراد تحقيق أفكاره وميوله في هذه المدرسة التي أصبحت سيدة مدارس دمشق، ولم يشأ أن يغير ما أُنشئت من أجله وأن يهدم مشاريع سلفه، فجعلها قسمين: قسم للفقه، وقسم للقراءات والعلوم العربية، فكان عالم البيت الأيوبي من دون منازع، وحامل راية ثقافتهم، ومفخر دولتهم على مرِّ الزمان، وقيل عنه إنه كالمأمون في بني العباس. ولم يمنعه اشتغاله بسياسة بلاده ومقارعة الأجانب عن التأليف ومنها: كتاب في العروض، شرح الجامع الكبير، ديوان شعره، كتاب في الرد على الخطيب البغدادي. كما أقام مؤسساتٍ علمية لتعزيز العلوم والآداب، منها: «المدرسة النصرية» نسبة للشيخ نصر المقدسي في مدينة القدس، مدرسة الحنفية بالقدس، المدرسة النحوية بالقدس. كما سعى لنشر اللغة العربية بوضع جوائز متعددة لمن يحفظ كتبها، ودعا لتأليف معجمٍ كبير جامع للغة العربية، وبذل المال بسخاء للعلماء، وقلدهم الوظائف الكبيرة وأجرى لهم راتباً، ونشَّط حركة التأليف والترجمة في جميع العلوم، وكرَّم الأدباء والشعراء بإسناد الوزارة لهم، وأنشأ مدارس للغة العربية ومكتباتٍ للمطالعة.
ويصف المؤرخون حفل افتتاح المدرسة العادلية الكبرى عام 619هـ بالجليل، ومما جاء بالوصف: «حضر السلطان المعظَّم وجلس في إيوان المدرسة، وجلس يساره ويمينه كبار علماء زمانه يتقدمهم مدرس المدرسة قاضي القضاة جمال الدين المصري، ودارت حلقةٌ صغيرة فيها أعيان المدرسين والفقهاء، وامتلأ الإيوان بالناس، وكان مجلساً جليلاً، واشترك السلطان مع الجماعة في الكلام العلمي….».
ومن ذلك الوقت أصبحت التقاليد أن يتولى التدريس فيها قاضي القضاة، وأن تكون محكمة للقضاء الشافعي، كما تولاها أعلام في الأدب واللغة كابن خلكان صاحب وفيات الأعيان، وكجلال الدين القزويني، الذي أصبح كتابه: «التلخيص في علوم المعاني والبديع» كتاباً مدرسياً لسنواتٍ طويلة، وكان يرتادها العلماء واللغويون، ويجري فيها مباحثات ومناقشات لغوية وأدبية. وضمت إضافة إلى قسمي الفقه والقراءات مجلساً للكتب (قاعة مطالعة)، ومجلساً للفتوى، ومشيخةٌ كبرى ومشيخة صغرى للإقراء.
وهكذا أصبحت المدرسة العادلية الكبرى قبلة طلاب العلم يُهرعون إليها من أرجاء الأرض، يملؤون رحابها، ويعمرون بأصواتهم وقراءاتهم أنحاءها، ولهم دويٌ كدوي النحل، ولكن دولاب الزمن يدور، فيفتر القوم، وتصبح المدرسة العادلية في أواخر العهد العثماني داراً متداعية الأركان، متهدمة الجدران، فيها قاضٍ يسكنها ولا يعمرها، وحجراتٌ خاوية خالية، وحشراتٌ ترتع.
وما إن جلا العثمانيون عن الديار السورية عام 1918، حتى قامت الحكومة العربية فرعت اللغة العربية وسدنتها، وجعلت المدرسة العادلية مقراً للمجمع العلمي العربي، وأذكت شعلة كاد ينطفئ أوارها، وشدت عزائم أوشكت أن تني وتفتر، وأرجعت المدرسة إلى سابق عهدها: مجمعاً للعلماء، وحصناً للغة العربية، وحِرْزاً لكنوزها الغالية.
في الثامن من شهر حزيران عام 1919 م، صدر أمرٌ حكومي بتأسيس «المجمع العلمي العربي»، وفي الثلاثين من شهر تموز عام 1919 م، اجتمع المجمع العلمي العربي لأول مرة في المدرسة العادلية الكبرى، وعقد جلسة مشهودة فيها حضرها طائفةٌ من أعضائه، وانتخبوا رئيساً له هو العالم العلامة «محمد كرد علي» (1293 – 1382هـ، 1876 – 1953م).
وباستقرار المجمع في العادلية، عاد إلى هذه المدرسة شيء من جلالها القديم وإشعاعها النيِّر، وأضحت مرةً ثانية ندوةً للعلماء يتباحثون فيها ويتذاكرون، ويؤلفون وينشرون، ولا يكاد يومٌ يمر إلا ويدخلها فيه عالمٌ عربي أو شرقي أو مستشرق أو مستعرب، يلقى أعضاء المجمع، أو يسأل عن كتاب، أو يستفتي في معضلة، أو يستزيد علماً، حتى إن رئيسه محمد كرد علي قال عنه: «وكأنَّ المولى قضت إرادته ألا يخلي العادلية والظاهرية من علمٍ يُنشر، وأدبٍ يذكر، فاختارهما مركزاً للمجمع العلمي، يقيم فيها سوق العلم والأدب بعد الكساد». كما كانت المدرسة مقراً لمتحف دمشق الوطني عند تأسيسه عام 2019.
بتاريخ 15/6/1960 صدر القرار الرئاسي رقم 1144 بإنشاء «مجمع اللغة العربية» بدمشق، الذي حلَّ محل المجمع العلمي العربي، والذي اتخذ من المدرسة العادلية مقراً له، قبل أن يُنقل إلى مقره الدائم الحالي في شارع الشهيد عدنان المالكي بدمشق في ثمانينيات القرن العشرين، وبقيت المدرسة تابعةً له، وهي الآن مكاتب إضافية للمكتبة الظاهرية الواقعة قبالتها تماماً، والكل يتبع وزارة التعليم العالي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن