ثقافة وفن

العبادة والحب

| إسماعيل مروة

العبادة والعبودية حب، بل أرقى أنواع ومراتب الحب، ويتجلى في العبودية العبق الأسمى من الحب المنعتق من كل شيء، والغريب أن هذه العبادة قد تقابل من الآخر بكثير من الجحود، ووحده المعبود الأسمى رتبة ومكانة هو الذي يتقبل العبادة والعبودية كيفما كانت، وبالصورة التي يشاؤها العابد، أما البشر سواء كانوا قد بلغوا عند الإنسان مرحلة من التعبد، أم لم يصلوا فإنهم لا يقنعون بكلام أو صلاة، أو إخلاص، بل يطلبون من العابد أن يتماهى، بل أن يتلاشى، وإن تنفس ذات لحظة بعيداً عنهم، فإنه لابد مشرك وضال، ويمكن أن تطلب منه الاستتابة بل ويمكن أن يتم هجره بكلمة طائشة مجنونة تهبط ذات لحظة تقول: انسحب، وتتلاشى كل الصلوات والاهتمامات في الضباب المحيط، ويظن المعبود نفسه على صواب، ويمشي طريقاً ممتدة مملوءاً بالألم والحسرة والعناد، وربما الخطأ من دون أن يتجرأ على الاعتراف بأنه نزق أحادي النظرة، الشك بنفسه قتله، والشك بمكانته وبالآخر أنهى مرحلة من التعبد والعبادة كانت الأجمل في حياته، ومن المؤكد أنها تعود لأن العابد أدرك أنه رهن لكلمة واحدة، وإغلاق لوسائل التواصل والصلوات مهما بلغت هذه الصلوات من مراتب!
وقد يكون البشر لا علاقة مباشرة لهم بالآخر، لكنهم يملكون القدرة على الحكم عليه، ويأخذون مكان المعبود، ويشكلونه على أمزجتهم، ويحكمون باسمه، وكأنهم ملكوا تفويضاً من المعبود بأن يكونوا حماة العقيدة في الأرض والحياة.. هم يقولون شيئاً، ويتغنون بأشياء ولكنهم في علاقتهم مع العابد ينسون كل شيء ويتناسون ويتجاوزون قدرهم مع المعبود الذي لا يقبل تفويضهم بحال من الأحوال!
لو شاء لجعل الناس أمة واحدة، فالمشيئة قدر، وعدم استعمالها حكمة، فإن عارضنا هذه المقولة العظيمة فإننا نعتدي على ملكوت الله ومشيئته، ومع ذلك نجد من يريد الناس على مبدأ واحد وعلى قلب واحد، وعلى منهج واحد، فإذا كان الله سبحانه لم يشأ أن يفعل وأوقف المشيئة كما نفهم من «لو» فما بالنا نريد أن نفرض على المعبود أن يشاء وهو لم يشأ؟
هو معبود، جاء بالناس إلى الأرض يحبهم ويحبونه، يحبهم بكل طريقة يحبونه فيها، ويرضى عن أي صورة يتم التقرب إليه فيها، وأراد الناس على مذاهب في الحب، وإن كانوا من منبع واحد، وكم نسمع، وسمعت كثيراً من صديقي سماحة المفتي العام الدكتور أحمد بدر الدين حسون اعتراضاته عليّ سابقاً، وعلى كل من يستخدم لفظ الأديان، والرأي هو الدين واحد والشرائع شتى، وهذا يعني تفسيراً منطقياً لقوله: ولو شاء لجعلكم.. بل إن المعبود كان أكثر رحمة بالعباد، إذ وصل إلى مرحلة متقدمة لم نشهدها عند البشر عبر التاريخ، حتى في قوانينهم الوضعية، وفي الأيديولوجيات الحزبية «فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر» وهذا التخيير لم يأت إلا من المعبود الأسمى معنىً ومكاناً ومنطلقاً ومآلاً.. فالمعبود ترك لك حرية العبادة أو الكفر، وهو يحبك لأن هذا التخيير يقع تحت إطار المشيئة نفسها ولا يغادرها. الدين واحد، أي الوصول إلى المعبود الواحد هو الغاية، والشرائع شتى يعني أن الوصول إلى المعبود يكون بشرائع شتى، وبطرائق شتى، فماذا يعني أحدنا الاعتقاد بكليم الله موسى وطريقة كلامه مع المولى وصورة الأرض ساعتها، إن كانت الغاية هي الحب والانصياع؟ وماذا يعنينا من قضية الكبش والذبح والذبيح بين المعبود وإبراهيم وإسماعيل، وما إذا كان الطلب حقيقة أم رؤيا، مادام الهدف هو الوصول إلى الحب بين الأب والابن، وبين الأب والرب، ومن ثم كانت الطاعة علامة حب تربط ما بين الابن والرب؟ وماذا يعنينا إن أطلق عليه اسم يسوع أو عيسى، وإن كان الصلب قد تم أم شبه لهم، ما دامت العبرة في حب الناس والمناولة والمسامحة، والمشي في درب الآلام، والخاتمة كانت في الرفع إلى السماء؟ كل هذا الحب، وكل هذه التضحية نتركها لنتوقف عند الساعات الأخيرة لنطمس الحب، ونقف عند تشخيص القضية ورسمها!
وماذا يعنينا الخلاف بين المفسرين حول الإسراء والمعراج جسداً وروحاً أو روحاً وحسب، ما دامت حادثة معجزة الإسراء والمعراج هي التي أقرت مبدأ الحب بين الإنسان العابد والمعبود، وامتدت القرون، ولا يزال الخلاف قائماً، وكل جاهل لم يملك أي قدرة علمية يخوض فيها، ينسى أن الغاية الحب… وماذا يعنيني إن كان اليابانيون والصينيون والهنود لا يعتقدون بالشرائع الثلاث ولهم تعاليمهم الخاصة إن كانت كونفوشيوسية أو بوذية، ما دامت هذه الأفكار الخاصة بهم تدعوهم إلى الحب والعيش وخدمة الإنسان؟
والطامة الكبرى في وسائل التواصل فهذا رجل دين من أي جهة يلبس لباساً يعطيه علامة ما يقدم بعيداً عن العلم كل ما يدعو إلى الكره، فلم لا يكون هذا دون مسوح الشرائع، وليقل ما يشاء، فله وسيلته للتواصل مع من يحب؟
ماذا يعنينا إن كان يصلي قاعداً أو واقفاً؟ مسبلاً أو مشبكاً، بجسده أو بعينيه بفاتحة أو بصليب، صلاة مادية أو معنوية ما دامت الشرائع شتى؟
بل ماذا يعنينا إن كان مؤمناً أو كان كافراً؟ فالمؤمن عابد يتقرب إلى معبوده فهو محب والكافر عابد يطمح بكرم معبوده فهو محب، ولكل منهما الحرية التي تركها وشرعها الرب فليعمل بها حسب فهمه، والإنسان الذي يجلس على كرسي ليحكم على الحب هو نطفة من الكره، لأنه يقف عائقاً أمام الحب! فالحب في أسمى معانيه هو حب للعباد وامتثال لحب المعبود، ويكفينا وضع مرجعيات غير قادرة لتحكم حياتنا الدنيا، ولتصور أن العابد هو الذي يعاف كل شيء كرمى لممارسة طقوس مادية.. الفلاح الذي تتشقق قدماه في أرضه هو المؤمن وهو المحب، والعامل هو المحب، وأديسون قمة الحب والإيمان، ونيوتن وأينشتاين وغراهام بل والخوارزمي والغزالي وابن رشد وابن خلدون، لأنهم جميعهم عملوا على إسعاد الناس وكشف طرائق الحياة الموصلة إلى حب المعبود.. وهم أكثر حياة وبقاء من واعظ في مسجد أو كنيسة كل غايته أن تبقى متصلاً به، تصله عطاياك بأي مذهب أو أي طائفة، وهذا الواعظ غير قادر على فهم آلية الضوء والنور، وكل ما يريده منك أن تدور حوله ليوصلك إلى الله المعبود!
العلاقة بين العابد والمعبود ليست طقوساً وإنما علاقة حب وتماه، فلنعمل على هذا الحب الذي يسعدنا، ويجعلنا أكثر قرباً من المعبود، مهما كان رأينا أو تصورنا له، وعلينا ألا نقبل بوجود وساطة في هذا الحب، فالصلة مباشرة كما رآها المتصوفة، وكما صورها ابن عربي.. الحب لا يحتاج إلى موظفين يفرضون على الإنسان أنفسهم وآراءهم، هذا إن ملكوا رأياً!
العبادة حب مطلق
العبادة أرقى أنواع ومراتب الحب
فلنحب المعبود كل بطريقته، وأولى هذه الطرق بحب الآخر، وبالاعتقاد أنه محب على شريعته، إن كنت أجهلها أو أعرفها.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن