قضايا وآراء

لماذا وصلنا إلى صفقة القرن؟

| عبد المنعم علي عيسى

لرسم خط بياني للصراع الفلسطيني الإسرائيلي بوصفه مركزياً للصراع العربي الإسرائيلي يمكن فقط الانطلاق من أعلى الورقة الميليمترية التي سيسجل العام 1947 الذي شهد صدور قرار التقسيم الذروة فيها، فقد أعطى القرار181 حق قيام دولتين إحداهما عربية على مساحة تبلغ 42 بالمئة من فلسطين وأخرى يهودية على مساحة 57.7 بالمئة فقط من أرض فلسطين التاريخية، وتبقى القدس وبيت لحم تحت وصاية دولية، ثم سيتخذ ذلك الخط مساراً هابطاً في خلال كل مراحل الصراع المفصلية، فسقف العام 1947 كان أعلى بكثير من سقف العام 1967 الذي شهد صدور القرار 242، وهذا السقف الأخير كان أعلى بما لا يقاس من سقف العام 1993 الذي شهد توقيع اتفاق أوسلو مانحاً الحق للدولة اليهودية لإقامة دولتها على 78 بالمئة من أرض فلسطين، فيما المنتظر أن يسجل الخط البياني سقوطاً إلى قاع من الصعب اليوم معرفة قراره بانتظار أوائل حزيران المقبل الذي سيشهد إماطة اللثام عن «صفقة القرن» كما أشاع مهندسوها.
والسؤال الأبرز هنا هو لماذا كان لزاماً أن يتخذ ذلك الخط مساره الهابط بالضرورة؟
بالتأكيد هناك شبكة من العوامل المعقدة التي يصعب عرضها هنا، لكن كتكثيف لها يمكن القول إن في خلفية الصورة تكمن التحولات الدولية المهمة وتهتك النظام الإقليمي العربي وتشتته إلى محاور تختلف في الرؤى والمصالح، لكن بالتأكيد يقف في مقدمة الصورة طبيعة التحولات التي عاشها الشعب الفلسطيني بكل تياراته وقواه الفاعلة وصولاً إلى قياداته الممسكة بقراره السياسي.
حققت مرحلة الكفاح المسلح التي بدأت مع بيان منظمة « فتح» في الأول من كانون الثاني 1965 وامتدت حتى العام 1993 حضوراً دولياً كبيراً للقضية الفلسطينية التي انتقلت من قضية «لجوء وتشرد» إلى قضية شعب اغتصبت أرضه وتهددت هويته، إلا أن ذلك كان قد تحقق بفعل توازنات سياسية كانت قائمة داخل منظمة التحرير وهي تتبنى منهجية واضحة المعالم في رسمها لثنائية متناغمة ما بين «الحركة والهدف» قبيل أن يستطيع ياسر عرفات الاستفراد بالقرار لصالح «براغماتية» سياسية فاق فيها حتى ميكيافيللي نفسه محيلاً «شعرة معاوية» التي حافظت منظمة التحرير عليها مع الأميركيين كقوة عظمى لا يمكن تجاهلها إلى حبل قادر على أن يشد أعتى السفن من دون أن ينقطع.
كان الخطأ الإستراتيجي الأكبر الذي ارتكبه عرفات هو ابتعاده، بدافع المناكفة في كثير من الأحيان، عن الرؤية السورية في إدارة الصراع مع إسرائيل، كان ذلك ابتعاداً لـ«الذراع» عن جسد «الرافعة» أفقده قدرته على أداء مهامه المنوطة به، يقول ياسر عبد ربه أمين سر منظمة التحرير في برنامج «الذاكرة السياسية» الذي تعرضه قناة «العربية»: إن عرفات لم يكن يحب طريقة تعامل سورية مع القضية الفلسطينية، وإن خشيته من سيطرة السوريين على الوفد الفلسطيني للمفاوضات الذي تشكل بعد مؤتمر مدريد 1991 هو الذي دفعه إلى تشكيل وفد «ظل» لخوض مفاوضات سرية انتهت إلى توقيع اتفاق أوسلو، ثم يضيف: إن عرفات كان معجباً بشخصية أنور السادات وطريقة تفكيره، ولربما يصح بعد هذا القول الأخير اعتبار حضور عرفات لجلسة مجلس الشعب المصري في تشرين الثاني 1977 التي أعلن فيها السادات عن استعداده الذهاب إلى تل أبيب «بحثاً عن السلام» حضوراً «غير بريء»، أما لماذا وقف في ما بعد ضد ذلك المسار؟ فالراجح أنه كان يخشى أن التحاقه به سوف يؤدي إلى سقوطه فلسطينياً في ظل رجحان كفة المعارضين على كفة المؤيدين، تماماً كما فكر الملك حسين في أن دخول حرب حزيران 1967 سوف يؤدي إلى خسارته للضفة الغربية التي يمكن استعادتها بالمفاوضات، في حين أن عدم دخولها سوف يؤدي إلى خسارته لعرشه أمام مد ناصري عارم، فكان أن قرر دخولها بعد اختيار أهون الشرين.
في مقاربة عرفات للعلاقة مع دول الطوق هناك الكثير مما يمكن أن يقال فيها، إلا أن أهمها هو أنه لم يلحظ أن التفكير الإسرائيلي كان يقوم على أن بالإمكان عزل مصر جغرافياً عن الصراع، في حين أن ذلك كان مستحيلاً في الحالة السورية الموجودة فيه بالجغرافيا والتاريخ، ولذا فقد كان المطلوب هو فصل الأذرع عن الجسد لشل حركتها، ولربما كانت تلك نقطة الانحراف الأولى التي أدت إلى المآلات التي صرنا إليها.
في كتابه «المقاومة الفلسطينية والموقف الراهن» وضع المفكر الراحل الياس مرقص برنامج عمل مقترح للثورة الفلسطينية وهو يلحظ تجارب ثورات عديدة والعبر المستقاة منها، ليخلص في نهايته إلى نبوءة مدهشة: «فيما عدا ذلك، أي فيما عدا التزامها بالبرنامج المقترح، فإن المقاومة الفلسطينية باقية لمئة سنة قادمة».
اليوم مضى على نبوءة مرقص أكثر من خمسين عاماً والراجح هو أنها ستكمل خمسينيتها الأخرى التي تضمنتها النبوءة، ولربما احتاجت إلى خمسين ثالثة لزوم رسوخ صوابيتها أكثر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن