ثقافة وفن

أحمد شوقي بين زمنين

| إسماعيل مروة

شوقي من أعلى علامات الحب، فهو الذي ما عرف سواه لأحبابه والناس، ناله ظلم كبير من الجهلة الذين يقرؤون شعره من منطلقاتهم الفكرية الخاصة أو حكموا عليه من واقعهم، فقد تجاهلوا الظروف التاريخية والموضوعية التي عاشها أحمد شوقي، ولعلهم غفلوا عن أن ما يأخذونه عليه هو مرتبة من مراتب الحب عنده، فشوقي ذو الأصول غير العربية عاش في القصر وتربى فيه، وقد كان محباً ومخلصاً للقصر الذي نشّأه وأعطاه حتى رضي! أما تذكر الكتب أن جدته قالت للخديوي عندما لفت انتباهه شرود الرضيع وبقاء نظره معلقاً بالأعلى، انثر له الذهب الأصفر على الأرض حتى ينظر إليها، ففعل الخديوي، وانجذب شوقي إلى لمعان الذهب وبقي ينعم به، وبخيرات القصر ردحاً طويلاً من الزمن..! كان من الطبيعي أن يعطينا شوقي نموذجاً في الحب لصاحب الفضل، فكان شاعراً للقصر كما يصفه الدارسون، لكنه لم يكن شاعراً للإنكليز، فهو شاعر لا يعرف سوى القصر وجدرانه، لذلك أعطاه شعره، وكان كالمتنبي الذي في مدحياته تفوق على التفوق، واستطاع أن يكون شاعراً من المرتبة الأولى.. شوقي لم يكن مصرياً بالجذور، لكننا عندما نقرأ شعره فإننا سنقف بلا شك عند خصيصة الحب الكبرى، فهو الذي انتمى إلى مصر وإلى الحضارة المصرية العريقة، فوقف عند تاريخها وآثارها وكل ما فيها ليخلد الأوابد وتوت عنخ آمون وسواه من الفراعنة الذين بنوا الحضارة المصرية القديمة، ولأن شوقي شاعر عظيم فقد استطاع أن يبرع في تقديم الفكرة والصورة الشعرية بطرائق متفوقة لم تستطع غيرة العقاد والمازني في الديوان أن تؤثر فيهما، واكتشف القارئ الحصيف أن كل ما جاء به العقاد والمازني ناتج عن غيرة واختلاق وافتراضات.
وقد قدم كثير من النقاد حافظ إبراهيم عليه، ومنهم طه حسين، لأن حافظ إبراهيم كان أقرب إلى العامة من شوقي، وصاحب منبت طبقي يماثلهم، وقد كانوا معذورين لأن الفكرة سيطرت عليهم أكثر من الشعر والشاعرية، والدليل على سلامة نيات الكثيرين أننا وبسبب المناهج والأحزاب والإيديولوجيات كنا في مراحلنا الأولى ننقم على كل صاحب مال! بل إن عدداً من أصحابنا ينتمون إلى أسر ميسورة، كانوا يجدون حرجاً بهذا الانتماء لكثرة ما تم ضخه في الأذهان وبقي الأمر كذلك عند ناقدي شوقي حتى التفتوا إلى الشاعرية والصورة، وبقي عندنا حتى اكتشفنا أن كل ما تم ضخه في أذهاننا ضد المال وأصحابه الحقيقيين كان وهماً، والذين علمونا ذلك أخذوا مكانة الأغنياء القدامى، وصاروا أكثر تحكماً، وشتان ما بين مال أصيل مكتسب ومال منهوب كان إثراء طفرة وغير مشروع!
المهم أن أولئك كانوا يفضلون حافظ إبراهيم، بينما كان شوقي يأتي به وبعلي الجارم وسواهما إلى دارته في كرمة ابن هانئ، فيبقون في ضيافته وعلى مائدته، ولم يحقد عليهم، ولم تتغير معاملته لأي شخص منهم، سواء في الاستضافة أو اللقاء أو الصرف عليهم، وهو وحده الميسور القادر على إشباعهم أو حين مات حافظ إبراهيم قبل شوقي بمدة رثاه شوقي بحب كبير، وأنصفه في إظهار مقدار براعته في ميدان الرثاء وتعداد المناقب:
قد كنت أوثر أن تقول رثائي يا منصف الموتى من الأحياء
وحده الحب عند شوقي هو الذي دفعه لرثاء حافظ، وللإشادة بتميزه في إنصاف الأصدقاء الراحلين، كل الذين بكوا حافظاً لم يصلنا شعرهم فيه، ووحده بيت شوقي كان خالداً لأن منبعه الحب لا المجاملة ومصدره الذات التي طبعها الحب بطابعه، فأرادت أن تكون للحب علامة.
وحين ضغط الإنجليز على شوقي والخديوي نفي شوقي إلى إسبانيا، غادر شاعر القصر المخلص له القصر أول مرة في حياته، الشاعر الذي نال من أحمد عرابي وهزيمته في معركة التل الكبير من أجل القصر وقال لعرابي:
أهذا كل شأنك يا عرابي
نفسه هذا الشاعر صار خارج القصر وبعيداً عن قصره، وهنا تجلت مراتب الحب الكبرى، فالشاعر الذي أحب العربية استطاع في غربته ومنفاه أن يستعرض كل ما لدى العرب، وأن يستخلص لهم شيئاً مما يفتقدونه، وأن يعود لهم بالمسرح الفني الناضج والمكتمل، سواء كان هذا المسرح شعرياً أم نثرياً، وكان أول من أدخل هذا الفن العظيم إلى الأدب العربي، واستأثرت موضوعات مصر والعرب باهتمامه وذائقته.
وحين عاد من منفاه كانت مفاجأته الكبرى، حيث كانت مصر كلها في استقباله، العامة هرعوا إلى شوقي لأنه شاعرهم، حضرت مصر والعروبة وغاب القصر والملوك، فكانت لحظة الحب والدهشة في حياته، ورأى الإنسان ومآسيه، طاف على الشام وجراحها:
سلام من صبا بردى أرق ودمع لا يكفكف يا دمشق
دم الثوار تعرفه فرنسا وتعلم أنه نور وحق
وللحرية الحمراء باب بكل يد مضرجة يدق
وللمستعمرين وإن ألانوا قلوب كالحجارة لا ترق
سلي من راع غيدك بعد وهن أبين فؤاده والصخر فرق؟
وبي مما رمتك به الليالي جراحات لها في القلب عمق
صار مصاب الإنسان العادي مصاب شوقي، وصار يتألم بالحب لما يحصل مع الإنسان المظلوم، وينحاز إليه لأنه اكتشف جوهر الحب وعمقه، فقد كان الحب في الجموع التي تدافعت لتحمل شوقي، وفي العرب الذين تنادوا لاختياره أميراً للشعر العربي، فكان الأمير الأول والوحيد، لا أمير قبله ولا أمير بعده، له الإمارة والحب، ولغيره الاقتتال على الوصول إلى ما لم يمنحه الناس!
رأى عمر المختار، وهاله ما حصل فانحاز إلى الثورة:
ركزوا رفاتك في الرمال لواء يستنهض الوادي صباح مساء
يا ويحهم نصبوا مناراً من دم يوحي إلى جيل الغد البغضاء
ما ضرّ لو جعلوا العلاقة في غد بين الشعوب مودة وإخاء
كل همّ شوقي كان في الحب والود والإخاء، وكان مثله الأعلى في ذلك الرسول صلى الله عليه وسلم، لذلك عارض البوصيري في بردته وتفوق عليه صورة وشعراً وسلاسة، وحبه للنبي جعله يقدم ما عجز عنه الآخرون لأنه قدم ما قدم بالحب وحده، وعرف مقدار ذاته:
أبا الزهراء قد جاوزت قدري بمدحك بيد أن لي انتسابا
مدحت المالكين فزدت قدراً وحين مدحتك اجتزت السحابا
وأحب الطفل فكان أول شاعر يعطي الطفل شعراً وحباً، لأنه شوقي المحب الكبير أحبه الناس جميعاً سواء كان للقصر أم لقضايا الناس وبقيت قافية حبه مشدودة على وتر روحه، فرحلت وصحبت معها إمارة الشعر.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن