قضايا وآراء

النكبة مستمرة و«الصفقة» تكرسها

| د. يوسف جاد الحق

النكبة ليست مجرد ذكرى يوم وقوعها، كما يفهمها ويتصورها بعضهم، إنما هي نكبة مستمرة معاشة بالأيام والليالي طوال الأعوام التي تجاوزت السبعين عاماً حتى يوم الناس هذا، نكبة أخذت منا فلسطين، وأقامت على أرضها كياناً هجيناً، جعلوا منه دولة أعطوها اسماً دينياً لإضفاء هالة من التقديس عليها بدعوى أنها أرض موعودة لهم من إلههم المزعوم يهوه!
في الخامس عشر من شهر أيار عام 1948 انسحبت قوات بريطانيا المنتدبة على فلسطين، لتسليمها إلى اليهود، تنفيذاً لوعد بلفور، والأسرار الخفية غير المعلنة وراءه.
دخلت الجيوش العربية فلسطين في اليوم ذاته، بإشراف الجامعة العربية، وبقيادة الجنرال كلوب باشا البريطاني، الذي كان قائداً للجيش العربي الأردني وقتها. وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على أحد أمرين، أو كليهما معاً: أحدهما الغباء المطلق في الجانب العربي آنذاك، إذ وافق العرب على أن يقود جيوشهم السبعة، للحفاظ على فلسطين، بريطاني معروف بضلوع دولته مع اليهودية العالمية، وتعهدها بإيصالهم إلى إقامة «وطن قومي» لهم في أرض لا تملكها، توطئة لأن يصبح دولة فيما بعد، وهو ما حدث بالفعل. ثانيهما: خنوع معظم الحكام العرب للصهيونية العالمية والدول الغربية الاستعمارية المعادية للأمة العربية، وعلى رأسها تحديداً أميركا وبريطانيا وفرنسا.
ما حدث في ذلك اليوم كان من شأنه أن يغير مجرى التاريخ في منطقتنا العربية، بل في الإقليم كله، ولا مغالاة إذا ما قلنا إن تداعياته ومفاعيله وآثاره شغلت العالم كله، وما زالت تفعل حتى هذه الساعة.
ما أحسبنا في حاجة للاسترسال في عرض للمسألة الفلسطينية بتشابكاتها وتعقيداتها، الفريدة من نوعها، بعد أن أمست معروفة لمعظم الناس في هذا العالم. إن علينا الآن أن نفكر فيما يجري اليوم من تحركات ومساع محمومة تجري على قدم وساق هدفها إنهاء المسألة الفلسطينية بالضربة القاضية. هي مؤامرة «صفقة القرن» العتيدة التي روَّجوا لها طويلاً، محاطة بالسرية والغموض لهول مضامينها وما انطوت عليه.
ولأن «المكتوب يقرأ من عنوانه» فإن تسميتها بالصفقة، المصطلح التجاري البحت الذي يوحي للتاجر بعملية رابحة بداية لحسابه، فهم يرون أنه حان الوقت للتخلص من هذه المسألة، ولاسيما أن هناك رئيساً أميركياً جيء به لهذا الغرض. وقد سار حتى الآن شوطاً لا يستهان به على طريق إنفاذ هذه المهمة، فقد منح الصهاينة، من دون أن يرف له جفن، وغير آبه لخروجه على القرارات الدولية في شأن القضية، القدس عاصمة أبدية لدولتهم غير الشرعية، إضافة إلى تبرعه لهم بأرض الجولان العربية السورية. وها هو يوافق اليوم على قرار نتنياهو الأخير بضم مستوطنات الضفة، توطئة لضمها كلها، بوصفها أرض ما يسمونها بيهودا والسامرة، ما جعلهم يرون أن هذا هو الوقت المناسب لاقتراف «جريمة القرن» وما يدور حتى الآن علانية من ذهاب دول ودويلات عربية إلى خندق العدو، ضد الطرف العربي والإسلامي المقاوم، سورية وإيران والمقاومة اللبنانية والمقاومة الفلسطينية.
إذا ما نظرنا إلى المسألة بدقة أكثر، وعمق أكبر، وجدنا هذه الصفقة هي نفسها «المبادرة العربية» التي أعلن عنها مع بدايات هذا القرن، والتي قدمتها السعودية إلى العالم تنفيذاً لصاحب فكرتها الصحفي الأميركي اليهودي الشهير توماس فريدمان.
تلك المبادرة ـ المؤامرة المعدّة لإنهاء الصراع مع العدو، تضمنت الاعتراف بالدولة اليهودية القائمة على أرض فلسطين، وأن عموم الدول العربية، وهكذا زعم أصحابها، على استعداد لعقد صلح نهائي مع الإسرائيليين، والإقرار بما سلب من فلسطين، وأنها ستتبادل معها التمثيل الدبلوماسي، وترفع علمها ليخفق في سماء العواصم العربية، وكأن شيئاً لم يكن بين العدو الإسرائيلي والعرب طوال الزمن الذي مضى منذ عام 1948. وتصبح بهذا فلسطين حقه المشروع والطبيعي من دون منازع! وهذا يتضمن تلقائياً شرعنة يهودية الدولة الصهيونية.
هذا الفجور بالذات كان المشجع للصهاينة وحلفائهم على الذهاب إلى إعداد هذه الطبخة «صفقة القرن» النسخة المعدلة عن «المبادرة العربية» الخيانة المبينة من الأصل.
وهكذا تتكرس النكبة التي نحن بصدد ذكراها في هذا الشهر إلى ما شاء الله، ويبقى الشعب الفلسطيني مشرداً بلا وطن، وصفحة فلسطين كلها تطوى إلى الأبد.
هذا ما خططوا له، وهذا ما يعمل العدو على طرحه، بل تطبيقه على الأرض ليصبح أمراً واقعاً نافذاً، أسوة بما درجوا على فعله فيما مضى طوال السنين المنصرمة.
على الرغم من هذا كله، نحن على يقين بأن صفقتهم هذه، سوف تتحول إلى «صفعة» لأصحابها جميعاً، فالشعب الفلسطيني عن بكرة أبيه، من دون استثناء، وبعيداً عن زعامات ابتلي بها قديماً تجاري الأعداء وتسايرهم، على حساب القضية المقدسة، لن يدع المؤامرة تمر أبداً، وأصحابها هم الخاسرون، بل لعلها تكون بداية ثورة عارمة تكتسح هذا الواقع المريض برمته، وفرصة نسترد فيها فلسطين كاملة، والذي سوف ينتهي ساعتئذ، هو الوجود الصهيوني على أرضنا، مرة واحدة، وإلى الأبد، فما لدى الجانب المقاوم من العزم والتصميم، الذي لا يرقى إليه الوهن، فضلاً عما يملكه اليوم من أسباب القوة، التي أعدّ لها طويلاً، ما لا يدع مجالاً للظن بأن نهاية الكيان الصهيوني الهجين أمست قريبة، وقريبة جداً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن