قضايا وآراء

بين أستانتين

| سامر علي ضاحي

حفلت الأزمة السورية بكثير من الاجتماعات وجولات التفاوض أغلبها مدفوع من الخارج بزعم البحث عن حلول للخروج بشكل سلمي من أزمة تعصف بالبلد المشرقي منذ عام 2011، ويوماً بعد آخر تجري كل جولة وتنعقد كل طاولة تفاوض أو حوار، أياً كان أطرافها سواء بين قوى محلية أم قوى دولية، وسواء بحضور الحكومة السورية أو حلفائها أم غيابهم، بحثاً عما يسمونه «الحل» ولكن لا تزال الحلول بعيدة المنال، باستثناء وجود قاعدة أساسية للبناء عليها هي القرار 2254 الذي تؤكد جميع الأطراف الالتزام به.
وبمتابعة تطورات الأزمة فإن الاختراقات التي حصلت عبر مسار السنوات السابقة كانت بمجملها لمصلحة الحكومة السورية، سواء الانتصارات الميدانية أم الجولات السياسية، وهذا منطقي في العلاقات الدولية إذ تثق القوى الدولية دائماً بالأنظمة السياسية على حين تعتبر القوى الوليدة، سياسية كانت أم ميليشياوية، أدوات مرحلية يتم استخدامها وفق ترمومتر المصالح خدمة للأهداف الإستراتيجية، بعيداً عن أي عواطف جياشة أو تعاطفات وهمية.
وبمنطقية بحتة، يمكن الملاحظة أن التنظيمات والتشكيلات المعارضة بقيت إلى اليوم بعيدة عن اجتراع أي حلول، وهي لا تخفي ولاءها المطلق لقوى دولية فتارة هي أداة أميركية وتارة أخرى تناشد «المجموعة الدولية المصغرة» وتارة ثالثة تبحث عن حضن عربي خليجي، لكنها في كل مرة تقع ضحية سهلة لتفاهمات القوى الدولية، في المقابل لا تزال دمشق محجاً لكل الباحثين عن الحلول الندية وتستمر بالحضور في قاعات التفاوض المغلقة بشكل مباشر أو بتنسيق مع حلفائها.
ميدانياً، ثمة شرخ واسع بين الهيكليات السياسية للمعارضة والتنظيمات المسلحة، إضافة إلى أن الأخيرة لم تستطع الوصول إلى حالة تنظيمية شبه جيدة، باستثناء ميليشيا «جيش الإسلام» التي سيطرت لسنوات على غوطة دمشق الشرقية قبل أن تخونها التفاهمات الدولية وتفرمها آلة الجيش العربي السوري، وهي اليوم مشرذمة شمالاً تبحث عن تبنيها في عواصم الغرب والخليج، وكذلك «قوات سورية الديمقراطية- قسد» التي تنتظر مصيرها اليوم على مذبح التفاهم الأميركي التركي.
الحالة الميليشياوية في شمالي غربي البلاد تعتبر الأكثر تعقيداً، ولا يمكن إغفال جهود النظام التركي الحثيثة لتوحيد السلاح هناك، بدءاً من محاولات صهر الميليشيات في ما يسمى «جيش الفتح» قبل أعوام للاستفادة من وجود تنظيم جبهة النصرة الإرهابي كحالة منظمة يمكن تعويمها بموازاة رفع الغطاء الإرهابي عن التنظيم، ووصولاً إلى تشكيل «الجيش الوطني».
وتحت إصرار دمشق على مكافحة الإرهاب ودعم الحليفين الروسي والإيراني إضافة إلى الحرج الدولي من رعاية الإرهابيين، سعت أنقرة إلى إيجاد حلول تسويفية فكان «اتفاق إدلب» بحثاً عن محاولة لإعادة تأطير «النصرة» وتأجيل عملية الجيش هناك فيما وجدت فيه دمشق فرصة لحقن الدماء وإتاحة الفرص أكثر أمام المصالحة، إلا أن عدم الالتزام التركي بالتعهدات التي قطعها في الاتفاق والمتعلقة باجتثاث «النصرة» من «المنطقة المنزوعة السلاح» أعاد إدلب إلى طاولة خطط الجيش وحلفائه.
لم يكن عدم الالتزام التركي متعلقاً بأنقرة وحدها في ظل وجود ما يشبه التوافق الدولي يتمحور حول رفض عودة الإرهابيين إلى بلدانهم وتركهم لمصيرهم في سورية، ومن ثم لم تتمكن أنقرة خلال أشهر من إيجاد حل لـ«النصرة» ولاسيما أن الجناح السياسي في التنظيم والمتمثل في ما يسمى «حكومة الإنقاذ» بات ينافس في الحضور ما يسمى «حكومة الائتلاف المؤقتة»، وفي الوقت نفسه لا تستطيع أنقرة التراجع عن دعم المسلحين والإرهابيين لاعتبارات عديدة أهمها الحفاظ على أذرع خارجية لها، وتهديد «قسد» باستمرار، ومخافة ارتداد الإرهاب على أراضيها.
ومع الأخذ بالحسبان قدرة دمشق اليوم وبدعم كامل من حليفيها طهران وموسكو، على تحقيق انتصارات ميدانية قبل العودة إلى «أستانا» في تموز المقبل، رغم محاولات التعطيل الأميركي لزعزعة التفاهمات الروسية التركية، وكذلك توسيع الحضور في «أستانا» ليشمل قوى عربية جديدة كالعراق ولبنان، فإن هذا من شأنه توزيع المسؤوليات أكثر في مكافحة الإرهاب ولا سيما على دول الجوار، وكذلك حل مشكلة اللاجئين والمهجرين، ومن ثم ستكون أنقرة في «أستانا 13» المقبل أمام استحقاق جديد تفقد فيه بعض الأوراق، وإن كان البحث عن حلول في شرق الفرات ما زال من المبكر الخوض فيه.
ومع عدم إمكانية عقد جولة جديدة من «أستانا» بانتظار تبلور خريطة ميدانية جديدة، فإن لا مفر لتركيا من حل «النصرة» إذا ما أرادت الاستمرار باستثمار الميليشيات، مع إمكانية اعتبار ظهور متزعم «النصرة» أبي محمد الجولاني بين قيادات الميليشيات، محاولة تركية للضغط على الشريك الروسي، لكن السحر قد ينقلب على الساحر إذا ما حصرت روسيا النظام التركي في الزاوية وأرغمته على تسليم رأس الجولاني وحل تنظيمه، وهنا لا يغيب عن كل الأطراف أن الحل السوري الموضوع على الطاولة «المصالحة أو المكافحة» هو الأنجع اليوم في إدلب، وثمة فرصة أمام الميليشيات لقبول «مصالحات» على مضض خير من انتظار مصير محتوم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن