ثقافة وفن

نزار والشام والحب

| إسماعيل مروة

نزار طاقات من حب، ومراتب من وله وانعتاق وتماه في الحب، ليس لأنه شاعر حب وقضايا امرأة، ولعل هذا الجانب هو أقل ما يمكن أن تتم الإشارة إليه، فشعر الحب والمرأة لا يمثل حباً، ولا يرفع مرتبة، فكم من شاعر حب أو غزل نزل في درك أسفل في مراتب الحب، وكم من أبي شجاع وهو سيد في الجبن والهرب، وكم من أبي كريم وهو سيد الشحّ والبخل! الاسم والمهنة لا تعطي أي شخص صفة لصيقة به، فالكاره لا يمكن أن يكون محباً، وصاحب المصلحة قد يغلف قبلته بوجدٍ مفترض ينطلي على الجميع، إلا على الحب والمحب، الحب الذي يعتمره الصادقون تاجاً لأيام خلت وأخرى يحيونها، وأخرى ما تزال في رحم الأيام التي لم تخلق، وقد لا تخلق، وإن خلقت فهي تحمل طابع عشقهم، وإن لم تخلق فقد تلاشت بعبير حبهم السامي، والمحب الذي يلوب بحثاً عن أمه ليلقم صدرها، ويرشف من ريقها حين تقترب لمعابثته بقبلة حب لا تنتهي بعد أن استخرجته من رحمها.. المحب الذي يلبس تنورة الصوفي المولوي يدور فيها على نفسه إلى جوار الشيخ محيي الدين في ذكرى مولد سرمدي وأبدي.. وحدهما الحب والمحب يقدران على قراءة ما لا يقرأ، وعلى شعور ما يتم إخفاؤه عن الكون، إلا عن بصيرة لا رغبة فيها ولا شهوة.
نزار عاش الحب لأنه إنسان، وليس لأنه شاعر حب، وتغلغل في الثنايا شعراً ونثراً وقولاً وحياة لأنه أراد الخلود، أراد أن يكون خالداً باقياً أبد الدهر، لا يقدر كاره على إبعاده، ولا يستطيع ناقد أن يبعده عن محوره حول شرايين قلب أدركه التعب قبل أن يكون نزار الدم الذي يجري في شرايينه ليعطره بالياسمين والغاردينيا والنارنج.. نزار كون من حب أكثر منه في عالم الشعر، واستمد حبه من حبه للإنسان، فهو الذي انحاز إلى أخته وحبها وعشقها، وهو الذي عشق أبا المعتز، وكان أبو المعتز يسكنه في صوته وتفاصيله
ضلال أنا لا يموت أبي ففي البيت منه روائح رب وذكرى بي
وهو الذي سكنه حب أم المعتز العظيمة التي أنجبته، وكان حملاً مدهشاً يستوعب الكون، واضمحلت آلام المخاض بكون من حب وشعر وعبقرية، وحين التصق بها أكثر فأكثر استطاع أن يشعر هذا الالتصاق، وأن يجعل الأم في مرحلة قداسة وطهرية، ليس لإنجابها وإرضاعها، بل لأنها مقدسة بعروسة السكر
صباح الخير يا حلوة
صباح الخير يا قديستي الحلوة
مضى عامان يا أمي
على الولد الذي أبحر برحلته الخرافية
وخبأ في حقيبته بقايا عروسة السكر
صوتها صوته
عروسة السكر زوادته
سيجارتها اللوحة الأزهى
ولد حباً، رضع حباً، لذلك ارتفعت ملكة الحب والانعتاق عنده، لم يكن نزار ليعرف الحب لولا ثلاثية الحب المدهشة: الأم التي بقي عمره يتوق إلى غطاء رأسها ويراه مقدساً، وتسكن جوارحه روائح فنجان قهوتها.. وأب كان محباً شامخاً يحترم امرأته ويداريها، يدّعي كما يقول نزار أنه صائم حتى لا يغضب أم المعتز التي تريده صائماً، أب أعطى لابنه الأجنحة للانطلاق في عوالم الإدهاش، لم يمنع عنه جناحاً، ولم يحجز عنه هواء، ولم يقبل فيه قولاً، ولم يستل يوماً سكيناً أو مقصاً للعبث بالجناح والكلمة، فقد آمن أبو المعتز أنه كان طريقاً لدلوف العبقرية إلى أرضنا وليس من حقه أن يحجز هذه العبقرية في قمقم..! أما أهم جزء من الثلاثية هي الشام التي أعطته مئذنة شحمها ومئذنة العروس، وأوقفته عند رأس الحسين، وجعلته صامتاً أمام السيدة العذراء ويسوع.. ينطلق إلى الحارات والمعاهد لينهل من كل ما في الشام وليس في سواها!
أعطته جمالاً
منحته حرية
حولته عطراً..
من جمع مكوناته وأشلاء من أم وأب وشام كان رسولاً لخلود الإنسان والمرأة والوطن، ومن شامه اختار الشامة لسموها وارتفاعها
يا شام يا شامة الدنيا ووردتها
يا من بحسنك أوجعت الأزاميلا
إن كنت أخفي ما أكابده
فأجمل الحب حب بعد ما قيلا
الجوهر المكنون الذي يكتنز الحب ولا يقبل منه معاداً أو معروفاً، بل يرنو ويسعى إلى ذلك الحب الذي لم تعرفه الأبجدية بعد، والذي لم يأت على لسان شاعر أو مبدع، بل يريد ذلك الحب العفوي الذي لا يستعين بشاعر أو أغنية، وإنما يهطل عفوية على لسان المتصوف الباحث بين الزوايا والتكايا عن سجادة صلاة لا تعرف جبيناً سوى جبينه، وعند حبيبة للعابد وحده، تتحمل سهره ومعابثته لها بماء وضوئه الذي يهمي على وجهه كل لحظة، ولكل صلاة وضوء خاص، العابد الصوفي وحده على طهارة في كل لحظة وحين، وعندما ينزرع في مغارات الأربعين، ويرتقي إلى هابيل وذي الكفل، ولا يترك هضبة أو قمة إلا وتمرّغ عليها يكون في حالمة من تطهر، لكنه لا يتقدم إلى سجادة صلاته إلا بعد أن يتطهر! يعرف عفو الرب، وهو على يقين منه، لكنه لا يتقدم منه إلى صلاتين بوضوء واحد!
بين حجرين على رصيف
بين شجرتي نارنج
بين بيتين متلاصقين
بين قامتين جميلتين يقف نزار
واثق من عشقه الأبدي الذي لا يشبه سواه، يدرك أنه الوحيد القادر على أن يجعلها معبودة، ولكنه لا يريد لها أن تتلوث، يطرح لها فرضيات كثيرة تقتله، ولا يريد لشامه أن تكون لسواه أو مع سواه:
كوني مع الإسكافي
كوني مع المزارع
لن تكون امرأة إلا معي
الحب وحده هو الذي جعله على يقين بأنه من يمنحها أنوثتها وإنسانيتها وكونها امرأة دون كل الناس، فالجميع يراها لعبة ومتعة، وهو يراها امرأة متكاملة الإنسانية والأنوثة.
لم يكن الحب عند نزار شعاراً
لم يكن أغنية للمارين
لقد كان الحب منزرعاً في التراب، في الوطن، في المرأة، في كل فاصلة من فواصل روحه، لذا عندما أتم رحلته، وشعر بأنه وزع ما منحته ثلاثيته على الكون أراد أن يكون كبيراً، وأن يدلف إلى شامه من الباب الصغير ليرقد فيها ويتعملق..
وهب حبه للمدى
قضى عشرة آلاف سنة
كانت لحظة في مقياس الحياة وأعماراً متطاولة في حياة الوطن
انزرع نزار متوسداً ذراع الشام بعد أن أمضى عمره يوسدها ذراعه، ويصنع منها الحبيبة المدللة أماً وأختاً وحبيبة
حبيبتي أنت فاستلقي كأغنية
على ذراعي ولا تستوضحي السببا
أنت النساء جميعاً ما من امرأة
أحببت بعدك إلا خلتها كذبا
كان حالماً ويحلم ويعتذر من شامه لنزقه:
يا شام يا شام ما في جعبتي طرب
أستغفر الشعر أن يستجدي الطربا
لكنه غضب طالت أظافره
ما أجبن الشعر إن لم يركب الغضبا
أغمد سكينه في صدر الكسل ورقبته
عاش حراً محباً
وغادر وهو يستاف الحب لا غيره

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن