ثقافة وفن

الردة الصوفية في الدراما السورية … أعمال لامست النص الصوفي ولم تقدم قراءة عميقة ولكننا بحاجة لنطفئ نار التطرف

| سارة سلامة

لعلها مرحلة قاسية حكمت تاريخ هذه المنطقة ورياح عاتية حملت معها الكثير من التشدد والظلامية والتزمت والتجارب الشخصية والعامة التي مررنا بها ليس كسوريين فقط إنما كشعوب عربية، ما جعلها تنحو إلى فكر معتدل لا مكان فيه للتطرف فاتجهوا نحو الصوفية باعتبارها تحمل نقاء وصفاء وجلّ ما تسره هو الحب الطاهر، فإذا ما أحببنا أنفسنا وبعضنا وموطننا فلم سنختلف ولم سنقتل؟ متوجة بقول أحد أشهر المتصوفين محيي الدين ابن عربي (أديـنُ بدينِ الحــــبِ أنّى توجّـهـتْ.. ركـائـبهُ، فالحبُّ ديـني وإيـمَاني). ومنها نلحظ جنوح القنوات الخليجية إلى إنتاج أعمال سورية بنكهة صوفية لأهداف ربما أهمها طرح الأخلاق السامية والبحث عن إسلام معتدل بعد موجة تشدد عاتية عصفت بوطننا وفتكت بشبابنا. وإذا أردنا إطلاق عنوان على دراما عام 2019 فسيكون «الصوفية»، بدءاً من «الحلاج» و«مقامات العشق» كما أن «العاصوف» تطرق له أيضاً، ومسلسل «عندما تشيخ الذئاب»، أما على مستوى الإنتاج المحلي فلدينا عمل «ترجمان الأشواق» الذي أنتج منذ عامين وتمثلت الصوفية باسم العمل وشخصية الدكتور زهير (غسان مسعود)، وعما إذا كانت الدراما قد طرحت الصوفية بشكلها الصحيح، وخلفيات وأهداف المحطات الخليجية من طرح هذا النوع من الفكر ناقشنا الموضوع مع كل من السيناريست السوري عثمان جحا وخلدون قتلان.

حالة إسلامية

وفي إطار حديثنا عن الصوفية وأهمية طرحها في هذه المرحلة وما إذا كانت الأعمال المقدمة ارتقت في طرحها للفكر الصوفي وقدمته بشكل صحيح، وعن جديده وما يحضر في خضم الصوفية عبر مسلسل «شمس الدين التبريزي» القطب الآخر للصوفية. تحدثنا إلى الكاتب عثمان جحا الذي قال إن: «صانعي هذه الأعمال اعتقدوا أنها تقف ضد التطرف أو(الحركات الإسلامية) التي شاركت في الحرب على سورية، ومنها انتشرت إلى كل أنحاء العالم وليس بالإمكان السيطرة عليها، لذلك هم بحاجة إلى البديل إلا أن الصوفية لا تعتبر في الاتجاه المعاكس للتطرف، والذي يقف في وجه التطرف هو المعرفة والرجوع إلى أمهات الكتب والقرآن الكريم والسنة والثقافة والفكر التنويري».
ويوضح أن: «الصوفية هي حالة من حالات المذاهب الإسلامية وليست مذهباً يعتمد على الحب الإلهي ولها مقومات وأسس يتعاطى معها كل الناس. وكل منا يستطيع أن يكون صوفياً بالطريقة التي تناسبه لأن هناك الكثير من الطرق الصوفية. والحالة الصوفية التي وجدت في مجموعة أسماء رنانة كبيرة في عالم التصوف مثل (الحلاج وابن عربي) جعلتهم يأخذون الاسم ويعالجونه بشكل سطحي للغاية من دون الغوص في التفاصيل الإسلامية وتفاصيل حياتية. وهناك انتقادات واسعة لهم من الإسلام المعتدل لأن الصوفية ورغم أنها تحسب على الإسلام المعتدل هي حالة إسلامية وليست مذهباً».
وفي سؤالنا عن إمكانية امتداد هذه الظاهرة إلى الأعوام القادمة. يقول: «لا أعتقد أن تستمر في العام القادم لأنها لم تثبت شيئاً ولم تدخل في لبّ المشكلة الإسلامية، ومشكلة التطرف التي تأتي من الاعتماد على آيات من القرآن الكريم، وهذا يحتاج إلى بحث وتقص والرجوع إلى مراجع إسلامية كبيرة ويحتاج إلى علماء إسلاميين كبار، وأظن أفضل من تناول هذه القصة مسلسل (العاصوف، إخراج المثنى صبح، تأليف عبد الرحمن الوابلي) بحلقاته 15- 16 و17 بحادثة الجهيمان الذي أعلن نفسه المهدي».
وفي سؤالنا عن هدف القنوات الخليجية من إنتاج هذه الأعمال في الدراما السورية. أجاب: «هدفها طرح عناوين والتعريف بتلك الشخصيات المتصوفة التي نادت بالحب والتسامح لترسيخ هذه القيم الأخلاقية، إلا أننا نستطيع طرح القيم عن طريق آخر غير الصوفية. لأننا لن نستفيد من الحالة الصوفية من دون الغوص بها».
وعن عمله القادم الذي يحضره بعنوان (شمس الدين التبريزي) قال: «سأتناول العمل من زاوية مختلفة، وسأضيء على علاقة شمس بالصوفية من زاوية أخرى وأتطرق إلى الحالة الفيزيائية والقوة البدنية ورحلة الأسفار المتعددة له. ولقاءاته بالحياة من دون أن أتطرق إلى الصوفية التي تعرف عن شمس مثل طيرانه. وأتناوله كشخص حقيقي عاش هذه الحياة بحلوها ومرها ومرحلة البحث عن الحب حيث كانت حياته الصوفية تتشكل بعد أن التقى جلال الدين الرومي».
وعما إذا كان سيركب الموجة الصوفية ممتداً بها إلى العام القادم قال: «دراما 2019 تطورت والقائمون عليها بذلوا جهداً كبيراً إلا أنها دراما شعارات وعناوين ودراما فيسبوك وتواصل اجتماعي. والعنوان العريض لها هو الصوفية في مواجهة التطرف. وأنا سأكمل هذه الموجة الصوفية الممتدة ولكن بطريقة مختلفة أستطيع خلالها مقاربة هؤلاء الناس، وأعتبر أن التجربة الصوفية التي طرحت لم تكن موفقة لأنها سطحية. وكانت بحاجة للبحث أكثر، مثلاً هناك كتاب (قواعد العشق الأربعون) للكاتبة أليف شفق الذي وصل إلينا في عام 2013 وانتشر في العالم كله يقدم حالة عالية من الصوفية، وكذلك رواية أخرى بعنوان (موت صغير) لمحمد علوان أخذت جائزة البوكر لعام 2016، وهي رواية صوفية عالية، ولكن للأسف القائمون على المشروع الصوفي لم يطلعوا عليها ولو أنهم اطلعوا فلن يرضوا عن طرح الصوفية بهذا الشكل الرخيص».

تعويم الفكر الصوفي
من جهة أخرى تحدثنا إلى الكاتب خلدون قتلان موجهين له عدة أسئلة عن طرح الصوفية في الدراما السورية وما أسباب تلك الردة الصوفية فأجاب: «الأمر واضح تماماً نبذ التطرف هو الهدف، الأمر يرجع إلى الأحداث الدامية التي شهدتها المنطقة العربية فيما سموه (الربيع العربي)، التطرف لدى الشعوب العربية وصل لمراحل لم يشهدها العصر الحديث، فالدين هو الورقة الرابحة التي تشن الحروب تحت رايته، ومع انكشاف ورقة الدور العالمي في تجييش الشعوب المسلمة وفشل مشروعها، كان لا بد من احتواء ذلك الاحتقان في الشارع العربي المسلم، فالحرب في سورية قد حسمت لمصلحة الدولة السورية، وليس من الحكمة تفريخ إرهابيين جدد في المنطقة في الوقت الحالي من دون تحديد وجهتهم فهم يصنعونهم لأجل حروبهم، ولهذا كان خيارهم تعويم الفكر الصوفي «الوسطي» على الفكر السلفي المتشدد، ولقد صدرت تقارير غربية بشأن ذلك، ومن هنا يجب أن ننتبه إلى دور الدراما كسلاح فكري فتاك، بل يجب أن نستغل الأمر عبر درامانا السورية ونقدم للعالم العربي والعالم الفكر الوسطي الذي يتبناه الشعب السوري، عبر المتصوفة الذين كانت دعواهم وما زالت قبول الآخر وتعميم ثقافة الحب».
وعما إذا ما كانت تلك الأعمال خدمت الفكر الصوفي وقدمته بشكل صحيح للجمهور وما إذا كان الغوص فيها يحتاج إلى المزيد من البحث والتأمل الحقيقي قبل طرحه. يقول قتلان: «لا أعتقد بأنها نجحت في تقديم الفكر الصوفي بشكل صحيح، نستطيع أن نقول إن تلك الأعمال لامست النص الصوفي الظاهر ولم تتمكن من تقديم قراءة باطنه، فالعلماء المتصوفة أهل باطن والمقصود هنا بالباطن قراءة ما خلف المعنى من نص القرآن الكريم، وكان للصوفية تجارب في تقديم شرحها لكتاب اللـه كتجربة «سهل التستري» أحد أئمة الصوفية وعلمائهم، فالفكر الصوفي يحتاج إلى قراءة عميقة للوصول إلى فهم فلسفته التي بنيت على صراع النور والظلام، ويأتي قبولهم للآخر من مبدأ الصراع بين الأضداد، ذلك الصراع الذي ابتدأ اللـه به الخلق فكان للإنسان ضد اسمه «إبليس» وذهب بعض المتصوفة كالحلاج إلى مناقشة دور إبليس والسبب الرئيسي لعدم السجود لآدم، فلقد وجد الحلاج أن الحب هو السبب، فحب إبليس لربه منعه من السجود لغيره، وهو بذلك قد حول الصراع بين بني آدم وإبليس وأتباعه إلى صراع من أجل الفوز بقلب الحبيب الأزلي وهو اللـه سبحانه وتعالى، بمعنى «لن تحب اللـه أكثر مني فأنا أفهم لعبتك»، فإذا قبل متصوف كالحلاج حجة إبليس فكيف لا يقبل حجة بني البشر، ومن هنا تأتي أهمية ذلك الفكر في هذا الوقت».

جدوى تقديم الفكر الصوفي
وعن خطورة طرح الصوفية بشكل غير مناسب لكونها قضية إشكالية بين الناس وهناك الكثير منهم يكفرون متبعيها. يبين قتلان أنه: «عندما نتحدث عن الصوفية أول من يعترض هم أصحاب الفكر المتشدد، فالفكر الصوفي يخلص المسلم من سطوة رجل الدين، ويلغي الواسطة بين العبد وربه وينقلها إلى أجمل حالاتها، الفكر المتشدد هو من قتل (الحلاج وابن عربي والسهروردي وشمس التبريزي)، لذلك يزعجهم جداً أي فكرة تقود الإنسان إلى التفكر والمعرفة، وأي عمل يحمل ولو قليلاً من تلك المعرفة لا بأس بعرضه، فنحن بحاجة لكل صوت يحاول أن يطفئ نار التطرف».
وعما إذا كان يعتبر تلك الردة موجة هاربة من التشدد لتحط رحالها باحثة عن فكر معتدل. يجاوب: «لا أعتبرها هروباً، بل أستطيع أن أقول إنها مدروسة وموجهة لتخفيف موجة التطرف، ولا نستطيع تحديد زمان لمكوثها في الفكر المعتدل، فالأمر مرتبط بالسياسات الدولية فكما يعلم الكثير تقوم السينما الأميركية بتصوير فيلم عن شاعر الصوفية الشهير (جلال الدين الرومي) الشهير بمولانا، وكما أشرت سابقاً فالفرصة متاحة أمامنا لنشر فكر وسطي يتبناه أهل سورية عبر النتاج الدرامي والسينمائي».
وبعد إنجازه عشرين حلقة من مسلسل «الحلاج» باسم «إمام القبول» أُسندت المهمة إلى السيناريست الأردني أحمد المغربي، وعن أسباب فسخ العقد يكشف لنا قتلان أنه: «بعد عشر حلقات لم أتلق فيها أي ملاحظة جاء قرار الشركة بتنبيهي إلى أن العمل أعلى من مستوى الجمهور، ولذلك أعدت صياغة العمل وأتممت عشر حلقات أخرى، وعلى عجل جاء قرار إيقافي عن العمل بحجة أن النص جيد، وأعلى من المستوى المطلوب، رغم أني كنت أعمل بتوجيهات مدير المحطة «طرح الحلاج كمفكر والخوض في فهم تجربته. ولكن ربما يرجع سبب إيقافي عن متابعة الكتابة لرفضي الإشارة في النص إلى جهات عربية وتقديمها في أجمل صورة، الكارثة أني أرى عبر ما قدموه جزءاً كبيراً من شخوصي وبحثي التاريخي الذي تم الاعتداء عليه بصورة واضحة جداً ليكون النتاج عملاً منبوذاً من طرف المحطة المنتجة».
أما عن مصير عمله فيقول: «مصيره أن يقدم للجمهور بإنتاج لائق يتبنى فكرة رفع الذائقة عند المشاهد، فلقد قدمت نصاً يصلح للعرض العالمي يشاهده الجميع، وهنا أقصد المنصات العالمية التي بدأت بتقديم المادة العربية».

هل تعود الدراما السورية إلى هيبتها؟
وفي ضفة أخرى نسأله عن مطالبته الدراما السورية بإعادة فرض هيبتها مجدداً، وما إذا كان هذا العام شهد ارتقاء في مستوها يقول إن: «لا شك أنه عام جيد ومطالبتي جاءت لوقف الاعتداء الذي تتعرض له الدراما السورية سواء من أفراد أم شركات، فلقد كان لي تجربة سيئة مع مسلسل (الكاتب) تلته تجربة مماثلة مع مسلسل (العاشق) وحسب قانون حماية المؤلف فهذا اعتداء سافر ونحن الآن في القضاء، من دون أن ننسى أن الأصوات الفردية ضد نجوم الدراما السورية بدأت تتكاثر في الخارج بحجة «أنا أولى»، وسوف تفرض الدراما السورية هيبتها عندما يعود السوري إلى السوري فيكون منتجاً سورياً نقياً، نصاً وإخراجاً وانتاجاً علماً أن السوق أصبحت مواتية للعمل على ذلك».
أما عن التفاصيل المتشابهة بين مسلسل «الكاتب» ونصه الذي يحمل اسم «الخونة»، وما إذا كان هناك جهة تحمي حقوق الكاتب في سورية. يجيب: «الحبكة هي اللب والمغزى، ناهيك عن خطوط كثيرة تم التلاعب بها ولقد قدمت لمقام المحكمة 48 صفحة أوثق بها حالة الاعتداء للحلقات العشر الأولى فقط من مسلسل الكاتب.
إنه نسخة معدلة بمهارة، وصدر أخيراً قرار ضم الكاتب الدرامي إلى لجنة صناعة السينما والتلفزيون، ومن هناك سيتم صياغة قانون يضمن حق الكاتب السوري.
وأحب أن أشير أن قانون حماية المؤلف موجود في سورية قبل قرار اللجنة، وبقليل من التنسيق بين لجنة صناعة السينما ووزارة الثقافة سيضمن الكاتب جميع حقوقه التي فقدها سنوات طويلة».
هذه جولة أفق في الدراما السورية التي تعرض هذا العام، وتأخذ جانباً من التصوف وعدداً من الشخصيات الصوفية الفاعلة، وكان التركيز فيما اذا كانت هذه الأعمال ستشكل مساراً جديداً في الدراما، أم إنها موجة فكرة آنية محكومة بأسباب سياسية وعقيدية من الجهات الممولة.
ومن هنا قدمنا عرضاً استعنّا برأي كاتب له تجربة في المجال الصوفي، وآخر له أعمال صوفية وتاريخية عديدة.. فهل تنصف الدراما رجال الفكر تحت مسمى الصوفية؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن