من دفتر الوطن

«تشيرنوبل»

| زياد حيدر

بدأت منصة «آتش بي آو» الترفيهية بعرض عمل درامي منذ أسبوعين، احتل المواقع الأولى على قوائم المتفرجين والنقاد سريعاً، وملأ على الفور الفراغ الذي تسبب به توقف إنتاج سلسلة «لعبة العروش».
العمل الجديد والجدي، هو «تشيرنوبل» الذي يحكي قصة اللحظات الأولى لانفجار المفاعل النووي السوفيتي الأشهر، والأيام والأسابيع التي تلت تلك الكارثة.
العمل إنتاج أميركي، ومجال تسويقه الرئيسي هو الولايات المتحدة، حيث الأحكام المسبقة تاريخياً عن الحقبة السوفيتية، لكن العمل يحاول بجدارة كبيرة تقديم تلك اللحظة التاريخية المؤلمة بكل جوانبها الإنسانية والعلمية والسياسية، من دون أن يغفل الحبكة الدرامية، في ملاحقة مسارات شخصية لبشر فجأة وجدوا أنفسهم في مواجهة أكبر كوارث العصر الحديث.
يظهر العمل المثير والشائق لحظات مؤثرة، من ذلك الصيف الحار، ويحاول تجسيد المواجهة التي قامت حينها بين البروبغندا المتحجرة والمنفوخة بالعظمة العقائدية للحزب الشيوعي الحاكم، وبين مجموعة العلماء الذين أرادوا الكشف للعالم ثانيا ولشعب بلدهم أولا حجم ما حصل، وكيفية تفاديه مجددا، ولاسيما أن التكنولوجيا المطلوبة للحد من آثار الانفجار والانتشار السام الواسع للمواد المشعة كانت موجودة لدى بعض دول المعسكر الغربي المتقدمة ومنها ألمانيا، وبالطبع كل ذلك من زاوية المنتج الفني الموجود في زمننا الحالي، وبشروط الواقع الراهن إنتاجيا.
وما أريد قوله من دون التوسع في الحديث عن العمل، الذي يستحق المشاهدة من دون تردد، هو هل كان يمكن صنع هذا المستوى من العمل بزمن تلك الحقبة؟ هل كان ممكنا ملاحقة أسباب الانفجار وهل كان من الممكن تشريح دور البروبغندا الحزبية والتعتيم الاستخباراتي على مسببات الكارثة ونتائجها بشكل فاقم من تأثيرها أضعافا مضاعفة؟ طبعا كان ذلك من المستحيلات، بدءا بإمكانية الوصول لمعلومات، مرورا باستحالة تصوير أي مشهد من دون وجود لجان رقابية تنتمي لكل أجهزة الدولة الأمنية والحزبية، إضافة لاستحالة الخروج بعمل حيادي وعلمي من دون ترداد «أناشيد النصر» و«تعرية المؤامرة»، وما إلى ذلك من شعارات وظيفتها تفريغ المعاني وتشويش العقول.
هذا يدفع للسؤال، بالنظر لواقعنا الحالي، ولاسيما في المجال الدرامي.
هل نحن في ظروف الإنتاج الدرامية الأمثل لصناعة أعمال تتعرض لميثولوجيا بعض الفرق الدينية والاجتماعية المحلية، أو إقحامها في أعمال ترفيهية، ولا اسم آخر لهذه الأعمال ما دامت تندرج ضمن بنية التسويق الحالية؟
هل الأرضية موجودة لمواجهة الفساد العميق في بنية أي حكم في أي نظام عربي وبآليات إنتاجه ذاتها؟ هل نحن على مسافة زمنية كافية من جوهر مشاكلنا لكي نراها بوضوح أم إننا كالمتروك المنسي في قاع بئر معتم؟
طبيعي أن الردود والحجج المقابلة هي ولم لا، وما الزمن المناسب، وما إلى ذلك من أسئلة تقفز للذهن، وهي في مكانها، ولكنها لا تجيب عن السؤال: ما المأمول من أعمال تقدم نفسها ككشافات نقدية حادة على مسارات صانعيها، ولكن بأموالهم ذاتها؟ هل يكفي الحماس الشخصي، إن لم يقترن بجو عام منسجم مع الرغبة في الإضاءة على مرحلة زمنية، وتعريتها بصدق ومناقشتها بواقعية بعيدة عن البروبغندا، وهواجس التسويق، والنرجسية الفنية وما إلى ذلك؟
لهذا يمكن لأعمال نراها اليوم تتحدث عن فترة الثمانينيات والتسعينيات أن تخاطب عقولنا ومشاعرنا باحترام أكبر من تلك التي تقول إنها تتحدى رقابة الواقع الحالي.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن