-1-
التقى الشاعر العراقي عبد الوهّاب البياتي (1926-1999م)، في زيارة إلى دمشق في الستينيات الماضية طالباً جامعياً، منخرطاً في الحراك الطلابي والاجتماعي منذ بداية تفتح وعيه السياسي والثقافي الذي واكب قيام الجمهورية العربية المتحدة عام 1958، وقد عززت دراسته الأدب العربي تعلقه بالطوابع الثقافية لذاك الحراك، فوجد في لقاء البياتي – الذي سبقته قصائده وأخبار عطائه الأدبي المتنوع الثر إلى دمشق – فرصة سانحة، تلبي تعلقه هذا، وقد راح يتماهى مع تفاصيل شخصيته يوماً بعد يوم. كان البياتي يتجاوز الأربعين، والجامعي الشاب يتجاوز العشرين، فوجدا في التسكع في شوارع دمشق الأربعين منبرا لحوارات تتصل بتشجيع البياتي لحملة الأقلام الشباب، وبحماسة شاعر شاب للشعر والحب والحياة، حماسة عالية المكونات الأداء، سيكون لها، بعد سنوات قليلة من ذلك اللقاء، فضل جوهري في منح اسمه: أيمن أبو شعر، ألقاً أدبياً واجتماعياً من طراز خاص.
-2-
حفظت في منتصف السبعينيات – أيام دراستي الجامعية الأولى – قصيدة «قارع الطبل الزنجي»، التي كان يلقيها الشاعر أيمن أبو الشعر في الملتقيات الشعرية الجامعية، محولاً فضاءها إلى طقوس احتفالية بقارع طبل زنجي بائس فقير، حذره الأطباء من خطر استمراره في العزف في ناد ليلي على صحته وقلبه الضعيف، غير أنه استمر في عمله تحت ضغط الفقر والعوز والحاجة، حتى كانت ليلة تداخلت فيها ضرباته على طبله، مع ضربات قلبه الموهن المتعب، وراح «القلب يدقّ، الطبل يدق» حتى توقف كل منهما عن الخفقان في مشهد درامي، من أعلى المشاهد التي شكلتها قصيدة في تلك الأيام، مصطدمة بموقف صاحب الحانة داعيا إلى تغطية جثة قارع الطبل الكهل، وإحضار قارع طبل آخر، تاركا عشرات، بل مئات، الحاضرين جلوسا ووقوفا وعلى أدراج المسرح، في تأهب جنائزي يتماهى فيه الحزن مع الغضب، متماوجاً مع حركات يدي الشاعر وطلاقة صوته الفياض بحنان إنساني خاص صعوداً وهبوطاً، راسما للتحريض الفكري على الظلم وهدر كرامة الإنسان تجليا شعرياً فنياً من طراز عالي الأداء.
-3-
قدمني إليه أحد أصدقاء طفولتي البعيدة هو الأديب المترجم جابر أبي جابر في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي، فحدثته عن تأثير مصرع قارع الطبل الزنجي في حياتي، وأسمعته قصيدة أكتبها بعنوان «أبي ينحت الحجر»، على حين كان يعد القهوة البرازيلية بطريقة خاصة، يتصاعد من إبريقها ظل سحابة سريّة، دفعت في الغرفة الصغيرة موجاتها المتلاحقة على جناح رائحة للبن لم أعرفها من قبل، وبدا أن للشعر أجنحة ترتب ما تفتقر إليه وقائع الحياة، فأصبحنا صديقين مع ارتشافنا القطفات الأولى من فناجين القهوة المذهبة والمطرزة بصور ملونة خاصة.
-4-
قبلني شريكاً في أمسيات شعرية كثيرة، كان حضورها الاجتماعي والثقافي الواسع، يعتمد على ما حققه اسمه من مكانة شخصية واجتماعية وثقافية، متنوعة الأمكنة والأزمنة، وقد أفدت من هذا الفضاء النوعي الخاص، فوائد وجدانية وأدبية واجتماعية شتى، كما كانت صلاته الواسعة بأدباء متنوعي المشارب والاتجاهات من مختلف البلاد العربية، تعزز صلاتي بكثيرين منهم، وتمنحها رتبة من الثقة والمصداقية في عوالم تشهد انهيارات متلاحقة في هذا المضمار.
تحت مظلات شراكة من هذا الطراز، توقف كل منا في محطات قطارات نقلت صاحبه على دروب الحياة ومفارقها، مكتشفاً ما يخص جوهر تكوينه الفكري والنفسي تارة، وما يشبه هذا الجوهر تارة أخرى…
كانت محطة لقائه القديم في ستينيات القرن العشرين مع الشاعر عبد الوهاب البياتي واحدة منها، فتحت لنا الأبواب لنناقش جوانب من خصوماته وخلافاته مع أقران نشأته ورحلته الأدبية في العراق، ولاسيما صديقه الخصيص في تلك النشأة على مدارج دار المعلمين العالية ببغداد، بدر شاكر السياب (1926- 1964)، والشاعر عبد الرزاق عبد الواحد (1930- 2015)، الذي كان يصغر كلاً منهما بأربع سنوات، وغدا واحداً من أبرز رموز الشعر العراقي، من دون أن يتغافل حتى رحيله، عن قسوته في تناول البياتي وشعره وسيرته.
شكّلت صور تلك الخصومات مرآة غير منتظرة في عكسها طبائع مغايرة لأفق التوقع في استحضار حالات أدباء تحوّلت أسماؤهم إلى رموز للرسائل الاجتماعية والثقافية الطليعية في الأدب العربي الحديث.
لقد شكّلت هذه المحطة المعرفية الصادمة، بداية الدروع النفسية الواقية في الاصطدامات المتلاحقة لمكونات بنيتي النفسية الغضة، مع المواقف الغامضة لشخصيات أدبية عربية كبيرة، من زملاء وأصدقاء وظواهر، غموضا لا يزال يهز انسجام المشهد الثقافي العربي مع جوهر مكوناته، فاتحا الأبواب والنوافذ أمام غير هامشي في الهيمنة على مراكز القرار في ذلك الجوهر.