ثقافة وفن

الليث حجو يقدم رؤى جديدة في «مسافة أمان» … شبكة من العلاقات التي شابها الكثير من التشوه والانحراف فوصلت بالمجتمع إلى أماكن شديدة الخطر والغربة

| وائل العدس

في أي مجتمع عانى الحرب يصبح كل شيء خطراً، بل أخطر من فترة الحرب ذاتها، بسبب العلاقات المتشابكة والمشوهة التي تنتج عنها، فتصبح طبيعة المجتمع مملوءة بالفوضى من ناحية علاقات الحب والعمل والحياة التي تشوبها الأخطاء، ونحن محاطون بالأخطار نتيجة هذه الفوضى العارمة التي خلفتها الحرب.
يحاول كل شخص منا أن يصنع لنفسه مسافة أمان بينه وبين هذه الأخطار، ليحمي نفسه من ارتدادات هذه المرحلة الحرجة، لكن مسافة الأمان التي وضعها كل منا وهمية، فليست هنالك مسافة أمان تحمينا من الفوضى التي وصلنا إليها.

عمق الأزمة
يوغل المخرج الليث حجو في عمق الأزمة الراهنة، فيقدم عملاً فنياً قائماً على شبكة من العلاقات الاجتماعية التي شابها الكثير من التشوه والانحراف، فوصلت بالمجتمع إلى أماكن شديدة الخطر والغربة.
وفي المسلسل الذي كتبته إيمان السعيد وأنتجته شركة إيمار الشام الكثير من أعباء الفوضى التي تعيشها المجتمعات العربية عموماً في فترات ما بعد الحرب، وهو يقدم سبراً عميقاً لبعض شخوص المجتمع السوري تحديداً، من الذين تأثروا بما يجري.
يخرج حجو عن مساره الفني المعهود الذي لا يقدم فيه إجابات عادة، ويكتفي بطرح الأسئلة، لكنه في العمل الحالي يقدم حالة خاصة تتمثل في تقديم رؤى جديدة لطرحه، فيقدم أجوبة محددة، منتهجاً أسلوباً جديداً، لأن النتائج التي نتحدث عنها في العادة قد صارت حقيقة معيشة في تفاصيل حياتنا اليومية، لا نراها فحسب، بل نعيشها، لذلك وجد أنه من الضروري وضعها في سياق العمل، فالنتائج واضحة وجلية في علاقات الحب والعائلة والعمل وكل تفاصيل الحياة.
كل العناصر في المسلسل من إضاءة وديكور وملابس وممثلين وشكل إخراجي بدت مسخرة لإيصال الفكرة التي هي هدف الجميع بشكل بسيط في الطرح بعيداً من الإبهار البصري الذي يخفي العيوب أحياناً.
ملتصق بالواقع

إن العمل الدرامي المرتبط ببيئته وواقعه، يضمن انتشاره، ويبقيه محفوراً بالوجدان، ما دام يلتصق بالواقع، ويكون أميناً في نقله.
«مسافة أمان» عمل اجتماعي في المقام الأول، فهو يتطرق للحب، العلاقات الإنسانية، القيم، والاستحقاقات الأخلاقية اليوم، ولن نرى فيه ملامح الحرب، لكنه يمتلك في الوقت ذاته كل مقومات الدراما السورية، التي تمتاز بنقلها الحقيقي لواقع الشارع السوري، من دون افتقادها لحس التجريب والمغامرة.
إن أكثر ما يميز هذا المسلسل هو الجملة الحوارية الخاصة، والشخصيات التي تمثل أناساً عاديين يعيشون في مرحلة ما بعد الحرب، جملة من التغييرات الصادمة التي طرأت على حياتهم بسببها، وكل منهم يحاول صناعة (مسافة أمان) مع الآخر، حتى يستطيع المحافظة على ما تبقى.

شخصيات
طبيعة الشخصية التي يجسدها قيس الشيخ نجيب تعبر عن واقع بعض الشباب السوري الذين عاشوا هذه المرحلة، وهي شخصية «يوسف»، فنان تشكيلي خريج كلية الفنون الجميلة ومصور فوتوغراف محترف وفنان موهوب كان له مشروعه الفني، يعاني انعكاسات الحرب التي تصيبه فيصاب بالإحباط ويخوض مشاكل مع بعض العلاقات التي تربطه بالناس القريبة منه وعلاقة حب كانت تربطه بفتاة، يتعرض لتحولات كثيرة ومشروعه الفني يتراجع فيعمل بالتجارة لأن طموحه وحلمه أكبر من الواقع الذي يعيشه، وهي شخصية غنية بالتقلبات.
وتقدم سلافة معمار شخصية «سلام» وهي امرأة متزوجة ولديها طفل، يختطف زوجها فتتعرض لصدمات عديدة، وسنرى كيف ستتعامل مع الظروف الجديدة.
تقع «سلام» في حب أحد الشباب الذي يصغرها عمراً بسنوات، وتتورط معه بشكل عاطفي ووجداني بعدما تشعر بحمايته لها، وهي شخصية رقيقة ومسالمة وتؤمن بالعدل في الحياة.
أما جرجس جبارة فاتخذ لنفسه كاركتراً جديداً في هذا العمل، يدل على أنه مريض وكبير بالسن، مؤدياً شخصية «مراد» ابن السبعين سنة، وهو رجل كان يدرّس الموسيقا، لكنه بعد التقاعد أصبح يعطي الدروس الخصوصية في منزله، لديه بنت واحدة يرى الدنيا من خلالها بعد وفاة زوجته التي شكلت محطة جميلة في ذاكرته ووجدانه.
بدورها فإن شخصية «سراب» التي تقدمها كاريس بشار فإنها تمثل معظم نساء سورية اللواتي تحولن إلى رجل وامرأة بآن معاً، من حيث المسؤوليات التي تحملنها في كل تفاصيل الحياة.
وتلعب نادين تحسين بيك شخصية فتاة اسمها «نهاد» تختبر قسوة الحياة، فتضطر لأن تتمرد على طبيعتها المسالمة وروحها الهادئة، وتقرر أن تحيط نفسها بمسافة كافية من الأمان حتى ولو اضطرت المبادرة بالهجوم على أي خصم محتمل، وهو زوجها الذي يخونها مع صديقتها.
بينما وفاء موصللي بشخصية «أم مروان»، تتعامل مع ابنها «مروان» وابنتها «صبا» بشيء من القسوة، وستنعكس الظروف الصعبة التي تعيشها العائلة على شخصياتهم.
وتبرز هيا مرعشلي بشخصية «صبا»، وهي مدرّسة تنتمي لأسرة بسيطة، تتصف بقوة شخصيتها، تضعها الظروف بمكان تتصرف فيه بطريقة خارجة عن إرادتها، لتتحوّل فيما بعد إلى شخصية مختلفة عن كينونتها.

طابع تشويقي
«مسافة أمان» سلسلة درامية اجتماعية، ذات طابع تشويقي، مؤلفة من ثلاثين حلقة، نتابع من خلالها، حكايات عدة لشخصيات تتجنب مزيداً من الخسارات، وتسعى بخجل، نحو حب هنا، وفعلِ فرح هناك، والهروب نحو المجهول أملاً بالخلاص.
ففي هدوء ما بعد الحرب ثمة ما هو أكثر خطراً من ضجيجها، ربما لا تتهددنا رصاصة، وقد لا تنال منا قذيفة، لكن القتال يجعل الناس، من حولنا مهووسين بالنجاة.. الكل يبحث عن خلاصه الفردي.. تتفكك العلاقات، ويصبح رابطُ الحب أضعف، وهنا تولد الحاجة لمسافة الأمان.
يصير الإنسان مشغولاً بخلق «مسافة أمانٍ» تجاه الخطر، فتراه يتجنب الخوض بكل مفردات الحياة، ويحاول أن يبني عموم علاقاته مع المحيط بمنطق «صفر مشاكل»، فلا يقترب أكثر من اللازم، لكنه لا يجرؤ في الوقتِ ذاته على الابتعاد، والتخلي عن دائرته شبه الآمنة.
الجميع يعتقد أنه يترك «مسافة أمانٍ» كافية تحميه من الأذيّات، لكن ما يقوله العمل يحيلنا إلى خلاصة مختلفة تشبه واقعنا حد التطابق: «مسافة الأمان التي نفترضها، هي وهم أنتجناه لنظن أننا بخير.
ويضم المسلسل على قائمة أبطاله كاريس بشار وقيس الشيخ نجيب وسلافة معمار ونادين تحسين بيك وحسين عباس وكرم الشعراني وحلا رجب وجرجس جبارة وأنس طيارة وإيهاب شعبان وهيا مرعشلي ولين غرة، وفنانين كثراً آخرين.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن