قضايا وآراء

الأردن.. تهديد بشغور وظيفي

| عبد المنعم علي عيسى

شيء ما لم يركب في معمل التجميع وتحديداً القسم الذي تجري فيه عمليات ضم الهيكل إلى باقي أجزاء العربة التي يفترض أن تقلع بـ«صفقة القرن» نحو المسارات المرسومة لها، الأمر الذي يمكن لحظه بقوة عبر التباينات الصارخة التي تجلت إبان تناول كل من مصممها غاريد كوشنر، مستشار وصهر الرئيس الأميركي، ووزير خارجيته مايك بومبيو، لآخر مستجداتها.
فعلى الرغم من أن الأول أراد أن يخفف من العقبات التي تعترض مشروعه عبر تأكيده عدم اهتمامه بحال فقدان الثقة الذي لمسه عند الفلسطينيين تجاهه كما أكد لموقع «اكسيوس» مؤخراً، وبناء عليه فقد سعى نحو إيحاءات كان الغرض منها التشكيك بقدرة الفلسطينيين على حكم أنفسهم، إلا أن الثاني، أي بومبيو، لم يتوان كما ذكرت «واشنطن بوست» في الثالث من حزيران الجاري عن إظهار قلقه تجاه فشل سيلقاه مشروع كوشنر على الأرجح، لا بل إنه أضاف: إنه يتفهم الانطباع السائد حول ذلك المشروع لجهة انحيازه التام لإسرائيل.
هذه المواقف الأخيرة لكلا الاثنين جاءت بعد جولة قام بها كوشنر إلى المنطقة وطالت المغرب والأردن وإسرائيل، والمؤكد أن حصيلتها كانت سلبية وهو ما استدعى تشكيك بومبيو سابق الذكر، والراجح اليوم أن هناك تناغماً كبيراً ما بين المعلن والمواقف الحقيقية تلك التي تشهدها الغرف المغلقة على عكس ما كان سائداً على امتداد عقود عندما كان المعلن دائماً يتناقض تماماً مع المستور.
من المؤكد أن تداعيات مشروع كوشنر ستكون كارثية على كامل المنطقة، إلا أنها ستكون أكثر كارثية على الفلسطينيين بالدرجة الأولى ثم على الأردن بالدرجة الثانية، فظروف تشكيل إمارة شرق الأردن عام 1921 كانت تقول بوجوب قيام كيان وظيفي يمثل عازلاً جغرافياً ما بين دولة إسرائيل المزمع قيامها آنذاك وما بين كل من سورية والعراق، كانت تلك الظروف هي التي حتمت رسوخاً استراتيجياً لا يمكن الحياد عنه ومفاده الحفاظ على حبل المشيمة الرابط بالغرب الحامي للكيان وفي غضونها «تفهم» ضرورات الأمن الإسرائيلي، مع ترك هامش مناورة ضيق لتبني تكتيكات من شأنها إضفاء بعض من صبغات وطنية على النظام كوسيلة لا بد منها لإبقائها كسد حام في مواجهة التيار القومي العروبي ذي الجذور العميقة في الأردن ومتراساً يقي من خطر الإسلام السياسي ممثلاً بتنظيم الإخوان المسلمين.
الآن تقول الصورة المركبة التي تمهد لها صفقة القرن إن الأردن لم يكن في يوم من الأيام في حالة تصادم مع الرؤى الأميركية والإسرائيلية على حد سواء كما هو حاله اليوم حتى في أشد مراحل الصراع المفصلية التي كانت تنذر أردنياً بالكثير، فتمرير الصفقة كما تراه عمان، وفي الأمر ما يدعو إليه، سوف يعني في نهاية المطاف إزاحة للجغرافيا وتزويراً للتاريخ في آن معاً من شأنه أن يفضي، ولو لفترة مؤقتة، إلى جعل الأردن وطن الفلسطينيين البديل.
لا توجد إحصائية أردنية رسمية حول تعداد الأردنيين من أصل فلسطيني، لكن غيابها هو مؤشر مؤكد على أن النتيجة التي ستظهرها تلك الاحصائية فيما لو حدثت صادمة أو هي مزعزعة للاستقرار الداخلي، والجدير ذكره هنا هو أن الهوية التي حملها هؤلاء لم تشهد حالة استعداد للذوبان في النسيج الوطني الأردني وإنما بقيت محافظة على خصوصيتها، والتوطين سوف تكون له تبعاته الخطيرة التي ستعصف بالتوازنات السياسية القائمة، وهي ستصل بالتأكيد إلى حدود تهديد استقرار عرش المملكة مهما تكن عوامل مناعته الإقليمية والدولية قوية، فالنظم تقوم أساساً على توافر عوامل قيامها الداخلية وإذا ما انتفت هذي الأخيرة يصبح من المستحيل لتلك الأولى أن توفر لها شروط البقاء هذا إن لم تكن هناك رؤيا لدى دوائر القرار في الغرب بانتفاء الحاجة التي أوجدتها مناخات عام 1921، وهو ما يمكن تلمسه في مسعى مزدوج أميركي إسرائيلي لخطب ود فلسطينيي الأردن ضماناً لعدم مناهضة هؤلاء لمشروع كوشنر.
تبدو خيارات الأردن في هذا السياق صعبة، فالظروف التي أتاحت له في الماضي لعب دور «المدلل» للغرب تكاد تنتفي اليوم، وما من مرونة متاحة يمكن أن تبديها «سنبلة» القمح الأردنية في وجه الرياح التي تتهددها، صحيح أن هذي الأخيرة تملك الكثير من عوامل الاقتلاع بدءاً بعوامل الاقتصاد ومروراً برعاية حملة المنتقدين النامية مؤخراً وهي طالت في بعض سهامها العرش نفسه، ثم وصولاً إلى إيحاءات إسرائيلية مفادها أن عمان ستجد نفسها في مواجهة «القوة» الإسرائيلية إذا ما قررت أن تركب رأسها حتى النهاية، إلا أن ذلك كله أهون بالتأكيد من التداعيات التي ستضع الكيان الأردني برمته أمام حالة شغور وظيفي حقيقي في حال قررت السنبلة الانحناء توقياً للعاصفة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن