ذات صباح التقيته أول مرة، ابتسامته رسول إلى روحه الهادئة المطمئنة، يبتسم ويتحدث بهدوء وروية، وبعد جلسات يمسك القلم ليخط كلمات على كتاب ويقدمه هدية، فقلت لنفسي: إذاً هو كاتب فلم يصمت كثيراً؟ مع أن عادة الكتَّاب أن يتحدثوا طويلاً، وأن يعرضوا جهودهم التي يقومون بها..!
فوجئت أن هذا الكتاب الذي قدمه ليس غير جزء من سلسلة من الكتب والمجلدات التي تتناول السلالات والأنساب، وهي سلسلة فريدة، فعلى ضخامتها وعدد صفحاتها الكبير، إلا أنها ليست أكثر من جداول علمية لا ثرثرة فيها، فهذه سلالة أسرة ملكية عربية، وأخرى غربية، وثالثة ورابعة.. وحين تعمقت العلاقة به عرفت أن الأستاذ نبيل القوتلي مهندس بارع، له مكتب ومشروعات، وعمله متشعب ويأخذ وقتاً طويلاً، لكن العناية بالأنساب والسلالات هوس لديه، استعان بمعرفته التقنية العالية، ويجب لهذه المواد العلمية أن تجد طريقها إلى النشر.
عملت والمهندس نبيل القوتلي في مشروعات عدة أولها مشروعه الخاص عن مدينته التي عشقها (دمشق) فقد جمع بحبه وعلميته معلومات وصوراً من النوع المهم عن مدينة دمشق، وكنت أسمعه يصحح الكثير من المعلومات عن مباني المدينة وتاريخها عندما تدور الأحاديث، وكل ما يتم الحديث عنه من شواهد مدينة دمشق العظيمة كالبرلمان وخط الحديد الحجازي وسيدي عامود والأموي وكنيسة حنانيا، وكنت أراه يقلّب هذه الصور بين يديه باحثاً عن الطريقة المثلى لإخراجها، وعن الاسم المناسب، فهو لا يريده كتاباً تجارياً، بل يريده كتاباً تذكارياً لمدينته أثناء الاحتفال بها عاصمة للثقافة العربية، وفوجئت بالأستاذ عادل عساف صاحب دار البشائر يطلبني لاجتماع مع المهندس القوتلي، وكان اجتماعاً وحيداً، إذ طرح خطته وكانت محكمة، وهي أن توضع الصور التي تتمتع بالندرة مع تعليقات عليها، وهذه التعليقات مترجمة إلى لغات عدة.. وطلبت منه يومها أن تكون هذه التعليقات معلومة وألا تكون إنشائية، خاصة أنها تترجم إلى لغات أخرى، فهذا التعليق يحوي وصفاً مختصراً وتاريخاً إن أمكن.. فما كان منه إلا أن طلب مني تولي المهمة، وترك بين يدي جهود سنوات، وحين عدت إليه وقد صنعت المطلوب مني، مع اقتراحات تتعلق بالتقسيم والصور خاصة المكررة منها ابتسم كعادته، واستلم المغلف.
وبعد أسابيع وجدت الكتاب مطبوعاً بأناقة متناهية تليق بدمشق والتعليقات المختصرة وترجماتها، مع مقدمة كتبها المهندس القوتلي ولم ينسَ أن يذكر كل من أسهم فيه، وكان لي الشرف أن خصني في مقدمته تلك، وصارت جلساتنا شبه منتظمة قبل الذهاب إلى مكتبه الهندسي، والحوارات باتت أعمق، وكل ذلك من دون تخلٍّ عن ابتسامته وهدوئه ووقاره، وكانت الدار الناشرة نفسها قد تعهدت كتاباً تكريمياً لدمشق للدكتور الشيشكلي بعنوان (دكاكين وبياعين زمان) وهو لوحات فنية متخيلة أو مشاهدة رسمها الدكتور خلدون الشيشكلي خلال فترة زمنية طويلة، وقد حالت ظروف كثيرة دون إنجاز هذا المشروع الذي تحوّل إلى غصة لدى الفنان والناشر، وفي جلسة صباحية وجدت المهندس القوتلي يطلب مني تقديم اقتراح للكتاب، وبالفعل تقدمت باقتراح قابل للتطبيق، وحملت صور اللوحات والنص المطبوع، وعلى مدى أشهر طويلة قمت بتنفيذ ما ألزمت به نفسي، لأجد المهندس القوتلي يبارك هذه الخطوة بعد مراجعتها ويطلب أن يذهب الكتاب إلى المطبعة، وكم كان حريصاً على الإخراج والمقاس والورق والفخامة في كل ما يتعلق، ويقول: كتاب عن دمشق، ودمشق تستحق، وأعترف بأن هذا الكتاب لم يكن ليصدر لولا حماسته وثقته بقدراتنا المجتمعة على إنجازه بصورة تعجز عنها مؤسسات.
وذات مساء اصطحبنا المهندس القوتلي إلى منزله الأنيق في دمشق، وكانت زيارة وحيدة فيها من الدلالات ما فيها، فشخص بمثل هذه الحياة المرسومة بمسطرة مهندس لا يمكن أن تخرج عن مسارها المحدد، ولا وقت فيها للزيارات والمجاملات والثرثرة، فازداد جمال ابتسامته، وكانت صورته أكثر نصاعة في هذا المنزل الأنيق الهادئ.
لم أدر أن هذه الزيارة ستعمق الصلة بالمهندس القوتلي، وأقصد الصلة الروحانية، فالصلات اليومية محسوبة من يوم خلق، فقد ارتفعت وتيرة الثقة والمحبة، ليطلبني بنفسه بعد أيام ويحدد موعداً للقاء شبه أسري ومهم للغاية.
كان اللقاء في فندق الفورسيزن القوتلي وعساف وأنا، ودخلت سيدة ممشوقة القامة، بغاية الأناقة والتهذيب، وبعد فنجان قهوة ودردشة عامة وجدت السيدة تعطيني حقيبة ملأى بالأوراق التي تحمل عبق سورية وتاريخها، وتقول لي: أنا هناء شكري القوتلي، وهذه الأوراق هي مذكرات والدي الرئيس شكري القوتلي وبخط يده، لم تنشر إلى اليوم، وقد أخبرني نبيل بأنك ثقة ودقيق، وأنا أترك بين يديك مذكرات الوالد، لأنني سأعمل على إخراجها، وتم تحديد خطة العمل بترتيب الأوراق وإزالة الغامض منها وتوضيح المطموس من الكلمات خاصة أنها مكتوبة بالحبر، والقيام بتنضيدها وتصحيحها من دون أي تدخل يذكر، لتكون جاهزة للطباعة.. وهذه أمانة عظيمة، فليس من حقي أن أنسخ أي عبارة أو موقف، وليس من حقي أن أصوّر، وليس من حقي أن أحتفظ بنسخة بأي شكل كان! هي لم تقل ذلك، ولكن كلمة ثقة كانت كافية، وترشيح نبيل القوتلي كان مرهقاً ويجب ألا أخيّب أمله وترشيحه.
عام كامل وأنا أعيش مع مذكرات الرئيس القوتلي، وسجنه في المرجة زمن جمال باشا السفاح قبيل الثورة العربية الكبرى، وأقلب النظر في الخط الجميل المنمنم الذي كتب فيه مذكراته، وأزعم أنها المرة الأولى التي أقرأ تاريخ سورية بخط واحد من كبار صانعي تاريخها ومجدها، ولم تكن متعتي عادية إضافة للفوائد الكبرى، وحين سلمت كل شيء للسيدة هناء القوتلي شعرت أنني قدمت خدمة لذاتي ومعرفتي، وقدمت شكراً لأحد صناع الاستقلال. وكل ذلك لم يكن لولا الأستاذ المهندس نبيل القوتلي.
وقد عرفت قيمة ما قدمه لي هو والسيدة هناء بعد جلساتي مع الوالد عبد الله بيك الخاني لصيق الرئيس شكري القوتلي، فقد كنت أستمد من تلك المذكرات من الذاكرة ما يفتح الحديث مع الأستاذ الخاني أو الدكتور سامي مبيض المؤرخ والصديق لكل هؤلاء.
منذ أيام سألت عن الأستاذ المهندس نبيل القوتلي الذي أخرجته الحرب من سورية من البدايات مع عمله وأسرته ولم أعد أجده في كرسيه المعتاد ليخبرني الأستاذ عادل عساف بأن المهندس القوتلي انتقل إلى جوار ربه منذ شهور في بيروت.
عادت إلى ذاكرتي هذه الصور وغيرها الكثير لهذا الرجل النبيل الذي أحب سورية وتاريخها، وأحب الإنسان واحترم سلالته، وعشق دمشق بكل ما فيها، وحفر في ذاكرتي أدق التفاصيل عنها، وكانت معرفتي به بدراية وبغير دراية والمفتاح الذي جعلني أتمسك بكل رصيف بدمشق ولا أغادر هذه المعشوقة التي يمكن للمرء أن يرحل من دون اكتشاف سر نكهتها، وإن عاد وبأي شكل كان فإنه سيقضي أعماراً من دون أن يكتشف سر حبها.
هنا لا أرثي صديقي الراحل، فقد مضت الأيام الثلاثة، ولكنني أبحث في كنه الحب وسره، هذا الحب الذي قتلنا دهشته ولم نستثمره كما يجب أن يستثمر..!
نموت غرباء
تحضننا قبور في أرض غريبة
نتنفس هواء غريباً
فأين حبنا لهذه العظيمة دمشق الشام؟!
ضع رأسك أيها العاشق على صدر قاسيونها واجعل مقام الأربعين مزارك، وأمويها نهاية خط الأفق لعشق وحب بهما تدوم الحياة وتستمر.