من دفتر الوطن

الحلول في الهروب!

| عصام داري

كثيراً ما كتبت عن الهروب، وفكرت فيه، ليس تهرباً من واجبات عليّ القيام بها، وإنما للتعبير عن معارضتي للواقع الذي وصلنا إليه، وإعلان الحرب على علب الإسمنت المسلح، والفساد والكذب والرياء واغتصاب القيم والمفاهيم النبيلة في وضح النهار.
كتبت منذ أيام أننا نشعر أحياناً برغبة جامحة في الهروب من ضجيج المدن، ومن التطورات السياسية والنكسات الاقتصادية، ومن الحديث عن السياسة والثقافة، وأظن أن حلول مشكلاتنا تكمن في هذا الهروب.
قد يكون هروبي ضرباً من المحال والأحلام، لكن من حقي أن أحلم، ولن يصادر أفكاري من صادر حرية قراري، وحلمي الصغير هو أن ألجأ إلى غابة منزوية في مكان بعيد عن المدن وسط ريفنا البكر الذي مازال يحضن الهاربين من الجحيم.
غابة أتصورها لوحة خضراء تتخللها ألوان وزركشات فرحة ويعانقها ضباب أزرق، وتخترقها جداول وعيون، هناك تسكن جنية مسحورة بعينيها الخضراوين، وهمسها الذي يشبه وشوشات العصافير، ودعوة إلى حب كنا نظن أنه انقرض في ظل هجوم القبح والبشاعة على كل شيء جميل في دنيانا.
تذكرت قصة قصيرة لمكسيم غوركي تتحدث عن معشوقة دخلت الغابة وضاعت هناك، فما كان على عشيقها إلا أن يدخل الغابة الحالكة الظلمة بحثاً عن محبوبته، ولما تكاثفت الظلمة أدخل يده إلى صدره واستل قلبه ورفعه عالياً كي يضيء دربه، فانبعثت من قلب الشاب نجيمات زرقاء أضاءت الغابة، فصارت عنواناً لها على مر الأيام.
هذه الأسطورة التي صورها الكاتب الروسي الكبير تعطينا عبرة تقول:إن القلب وحده قادر على إضاءة غابة، وما بعد الغابة، وإن الحب هو الباقي على الرغم من فحش الكراهية التي احتلت مساحات واسعة من عالمنا الصغير والكبير.
لذلك حلمت بغابة يعانقها الضباب الأزرق، وتنبعث منها نجيمات زرقاء وقرمزية وحمراء وصفراء، نجيمات بألوان قوس قزح كي ننسج قصيدة حب تنسينا هموماً تحاصرنا على مدار الساعة في عالم متوحش يغتال المشاعر والأحاسيس الرقيقة والنبيلة ببرودة أعصاب وكأن شيئاً لم يكن.
الحل في الهروب من واقع يجلدنا بسياط من لهب، مرة بغلاء الأسعار ولصوص النهار، ومرة بنار العابرين في حياتنا رغماً عنا، يحطمون ويدمرون ويغتالون الطفولة ويسحقون الورد والأزاهير.
نهرب من الحوارات المملة جداً، والمكرورة جداً، والعبارات الجاهزة التي يتحفنا بها معظم من أطلقوا عليهم تسمية (المحللين السياسيين).. فصارت التسمية مهنة من لا مهنة له، وصار المواطن قادراً على اكتشاف ما سيقوله هذا المحلل أو ذاك قبل أن ينطق بكلمة، مع اعتذاري من عدد قليل جداً من هؤلاء!
الهروب من كل ذلك صار مطلباً ملحاً للمواطن العادي، لكن كيف له الهروب؟ حتى هذا الهروب في ظل يحتاج إلى رأسمال «محرز» إن كان المقصد في الساحل السوري، أو حتى البساتين التي تحيط بدمشق، وقد تبخر نصفها أو أكثر.
في ظل عجزنا عن الهروب، دعونا نحلم بأننا قادرون فعلاً على الهروب إلى تلك الغابة التي يلفها الضباب الأزرق، وشكراً على كل من سيسمح لنا بالحلم!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن