في دولةٍ كفرنسا التي كانت تمتَلك اتفاقيةَ تبادلٍ طلابي مع سورية، كانَت حَكايا تفوق الطلبة السوريين المُبتَعثين لإكمالِ دراستهم ونيل شهاداتي الماجستير أو الدكتوراه لا تُحصى. كانت النظرة العامة لهم مختلفة إن كان من جهةِ إقبالِهم على التعلم أو الانضباط الأكاديمي والانفتاح على جميعِ الأفكار، حتى جاءَت هذه الحرب اللعينة ليتمَّ اختصار صورةَ السوريين بأولئك الذينَ يقفون على إشارات المرور يتسولون المالَ بادعاءِ أنهم لاجئون سوريون، ومعظمهم لايعرف أينَ تقع سورية أساساً؟
حكايا التفوق تلك كان لها أسباب مباشرة أهمها أن الأغلبية العظمى من المبتعثين كانوا من المستَحقين لأنهم أساساً من المتفوقين، النقطة الثانية هي الوضع المادي للطالب السوري في بلدِ الابتعاث، إذ كان الراتب المدفوع من الحكومة السورية يُعتبر من بين الأعلى للطلبة الأجانب كما حال راتب المبتعَث الليبي زمنَ الزعيم الراحل معمر القذافي رحمهُ الله.
أما في الأسبابِ غيرِ المباشرة فإن الفرنسيين المعجبينَ بإبداعِ الطلبة السوريين لم يدركوا مثلاً حجم ما عاناهُ الطالب السوري لكي يصلَ إلى ما يصِل إليه، فطالب الثالث الثانوي القادر على مقارعةِ كتابَي الفيزياء وعلم الأحياء بأحجامهما العائلية وما فيهما من حشوٍ وتركيزِ معلوماتٍ لا ندري حتى اليوم لماذا لم يجر توزيعهما على السنتين السابقتين، قادر أن يغزو فرنسا بأكملها.
الطالب الذي عليه فجأة أن يقرأ عن أسباب نجاح زراعة النخيل في العراق وحِفظَ تواريخ الاحتلال العثماني لقسنطينة في الجزائر ومن ثم عليهِ الانتقال من الفلسفة العربية وصولاً للمنطق وعلم النفس، يجب أن نصنع لهُ تمثالاً بديلاً لتمثال أبي العلاء المعري الذي قطع رأسهُ ثوار الحرية.
عندما نعلم أن كتَابين في المرحلةِ الثانوية يزيد عدد صفحاتهما عن مجموع صفحات المواد التي يدرسها طالب الحقوق بأحد فصلي السنة الأولى مثلاً بأي جامعة فرنسية، عندها علينا أن نعرف عن أي طالب نتحدث.
الطالب السوري ليسَ ضحيةً لمناهجَ مضخمة فحسب لكنهُ ضحية للمجتمع أيضاً، فمجتمعنا يعتمد فرضية أننا نريد أن نُعالجَ عُقد نقصنا بأولادنا، فالأغلبية مثلاً تركز على أن ابنهم يجب أن يكونَ طبيباً أو مهندساً وماعدا ذلك فهو فاشل، من هنا تبدأ رحلة الجحيم لدى هذا الطالب، كيف لا وهو يبحث عن التفوق في عيونِ المجتمع باختياراتٍ ضيقة وبهامش خطأ لا يتجاوز نصف علامة أو علامتين على الأكثر؟
القصة لا تنتهِ هنا، هؤلاءِ الفرنسيون مثلاً لم يسمعوا أن الطالب السوري عندما يكون في ذروة التركيز خلالَ الامتحان، قد تباغت مسامعهُ أصوات أبواقِ السيارات والدراجات النارية عند مرورِ موكبٍ لمسؤولٍ قررَ فجأةً أن يستعرض عضلاته بالمتابعة الحثيثة للعملية الامتحانية، وسيكون محظوظاً إن تجاهلَ المسؤول مركزهُ الامتحاني، أما إن كان غيرَ محظوظٍ فقد يجد أمامه وبشكلٍ مفاجئ فريقَ كرةِ قدمٍ جاء ليسجل أهدافاً في مرمى تبييض الصفحات، أما إن حلّت عليه لعنة السماء فقد يكون هو من يطرحون عليهِ السؤال المقيت: كيف شايف الأسئلة؟
نحن مع أن يتابع أي مسؤولٍ عملهُ لكن القاعة الامتحانية لها حرمة، ووقت الطالب وتركيزه يجب أن يكونا مقدسين لا يحق لأي كان أن يقتحمهما، ومن يرد فعلياً أن يستطلع الآراء فبإمكانهِ الوقوفَ في موكبهِ أمام أي مركزٍ لحظةَ انتهاء الامتحان وليستطلعوا آراءَ من يشاؤون من الطلاب.
في الخلاصة: لو تحدثنا عن أسباب تفوق الطلبة السوريين حتى الغد لن ننتهي، فارحموا الطالب السوري على الأرض يرحمكم من في السماء، هؤلاء الأطفال لا ذنبَ لهم أنهم ولدوا زمن الحرب، وزمن الاستعراض في مجتمعٍ يبدو عاجزاً عن التمييز بين طموح أولياءِ الأمور والموهبة، ولم يعد ينقصه إلا.. جولات الرعب الامتحانية.