ثقافة وفن

جلجامش والوهم..

| إسماعيل مروة

هل هو الحقيقة الوحيدة في حياة الناس؟ الموت ذاك الذي نشتاقه ذات لحظة ويبتعد عنا ليزيد من ألمنا، وفي غمرة انهماكنا وفرحنا وعملنا، ومن دون أن يخطر ببال ينقضّ فجأة لينهي كل ما يمكن أن يكون في أحلامنا!
هل هو حقيقة في حياة الناس وحدهم؟
ننشغل بالحديث والذكرى، ننسى كل سلبية لنستعرض سلسلة من الإيجابيات الجميلة في حياة الذي رحل عنا تاركاً سيرة مضمخة بالعطر، وأخرى مسكونة بالعمل والهواجس..
وحدها المدائن تودع بوجه طلق
وحدها البلدان تحاور راحلها الذي اكتنزها واكتنزته
وحدها تبقى ويرحل الأشخاص الذين عمروها وأحبوها..
كلنا راحلون وتبقى المدائن شاهدة وشامة وعلامة لزمن قادم أخفي عن الراحل.
والمدائن تعج بالمدافن والأضرحة والمقامات
فهذا كان والآن لم..
وذاك كتب ولم تبق منه غير صفحاته..
وثالث اعتدى ولم يذكر بسوى اللعنات..
ورابع كان محباً وذكراه عطرة بصوفية العشق..
ابن عربي رحل.. مقامه يشهد.. ومعرفته تتبع.. ودمشق ترفع راية ضريحه.
هولاكو رحل.. تاريخه عبرة.. عنفه يرجم.. وبغداد تصبغ ماءها بحبره ودمه.
ابن عثمان رحل.. تتريكه حكاية.. قسوته تخيف.. والسفر برلك موعظة الغائبين.
كلنا راحلون كما رحلوا.. فالموت حقيقتنا الوحيدة الملموسة
وكلهم رحلوا.. وأغمضت أعينهم قبل الرحيل..
غورو.. ساراي.. لم يبق أحد إلا في صفحات المدائن وشواهدها وآثارها.
على باب بورسعيد كان فرديناندي لسبس.. واليوم بقي بلا رأس ولا معالم!
بقيت بورسعيد.. عاشت المدائن..
والمدائن الخالدة في كل زاروب فيها حكاية
فهنا كان جول جمّال وإن رحل.
وهنا الشيخ رسلان تعتمره دمشق
وهناك بولس الرسول انطلق برسالات يسوع
هل هو الحقيقة الوحيدة في حياة الناس؟
ليست الحياة سوى نكتة فيها من المرارة أضعاف ما فيها من الحلاوة.
لنبحث في ذرات التراب، ولنطمر أحلامنا وأعمالنا.. هي وحدها القادرة على الاحتفاظ بكنه الأشياء وحقيقتها..
ليس الخلود سوى وهم وضعنا فيه جلجامش ولن نصل إليه
وليس سوى وهم وضعه فينا الناموس لنكون أنقياء، فهل نكون؟
لمدائن تحتفظ بالذكرى والذاكرة، نهرع لننعش ما تبقى من حكاية وليس من أشخاص!
الخلود وهم ولن يكون
جلجامش مخادع حين سمح للأفعى أن تستلّ منه عشبته
راوغ عمره وسحبنا خلفه، وصرنا نحلم بأن يستطيع العثور على العشبة السحرية
على حياة لا تنتهي!
أيهما أقرب إلينا وإلى أرواحنا الحب الموت؟
وهل يختلفان؟
هل ثمة فرق بين الموت والحب؟ كلاهما حقيقة، وكلاهما حب في البقاء أو الرحيل، ولكن الموت رغبة مدفونة بالمغادرة ممزوجة بحب ورغبة في البقاء، وهو حقيقة ساطعة لا مراء فيها ولا خلاف، ولا يداخلها أي شك أو ريب، وليست مربوطة بإرادة الإنسان، إلا إذا ملك شجاعة همنغواي، فقارع البحر والقدر بشيخه الوقور، وانتصر على البحر، فكان شيخاً مقدماً على البحر، وحين وصل مرحلة اللاجدوى واللاعودة قرر الشيخ أن يغادر، فغادر من دون أن ينتابه أي إحساس بالأسف!
ولم يكترث لما قاله من بعده ولمن قالوه!
كل ما يعنيه أنه قارع الزمن فصرعه، وغلبه بشيخه المتعب المصمم على الحياة والحب، وصارع الزمن بذاته، فاستل القرار وغادر بقرار ذاتي، إن دل فإنما يدل على إرادة صلبة في قهر ما نظنه لا يقهر، وفي أن يكون مبادراً لا منتظراً لشيء يخضع لفلسفة الانتظار لكنه أراده خاضعاً لقرار ودهشة مفاجئة..!
هذا هو الموت.. أما الحب فهو وهم نتخيله، ومسرح نبنيه بالأحلام، وقبل أن يكتمل المشهد يحترق المسرح وتتبخر الأحلام على صخرة الواقع، ويتحول الحب إلى أي شيء، لكنه يتخلى عن أنه بذرة الحياة الأفضل.. الموت لا يأبه للعوائق، أما الحب فإنه إذا ارتطم بأمر ما ولو كان وردة من الورد، فإنه يتحول.. وما أدرانا ما التحول؟
الموت خاتمة وفرح أو تأسف..!
الحب حالة وتمرد وادعاء تضحية!
كل منا يدّعي الحب، ويدّعي أنه المحب، وأن الآخر هو السيئ، وهو الذي لا يقدر المحبوب، ولا يرى المدعي أي نقص في ذاته، وإنما يرى كل حسنة ويحوّلها عيباً..! وقليلاً ما نجد إنساناً يتذكر الحب على أنه لحظة جميلة، إن ضاعت، أو غابت، أو فترت، فإن ما نحمله من حب جميل وذكرى طيبة يكفي لقلب كل شيء وتحويله إلى إيجاب.
الوطن حب… الجار حب… الصديق حب
حتى شجرة الدّلب والحور نوع من أنواع الحب
فهل نعي عندما نغادر أوطاننا ما فعلنا بالحب؟
وهل نعي عندما نغدر بجارنا ما فعلنا بالحب؟
وهل ندري إن قطعنا شجرة دلب أو حور أو جوز قبل أن تشيخ ويدب فيها المرض ما فعلنا بالحب؟
حوّلنا الحب إلى موت… وحوّلنا الموت إلى عهر
وطمسنا الذات قبل أن تكتمل
وأعطينا الموت فضيلة أن يكون الحقيقة الوحيدة التي نشهدها، لأن الولادة لم نشهدها، وحولنا الخيار الإلهي في الحياة إلى سكة مسيّرة لا نفعل حيالها إلا دفعها إلى الهاوية!
ابن عربي يشمخ أمامنا بعد القتل ليشهد بالحب..
يفضح ابن عربي كل المحبين الذي تغزلوا بمحبوباتهم، وعملوا في فضح قصصهن، ويسخر منهم وهو يسمو بعباءة ومقام إلى القمة العالية من الحب..
وقابيل يعلمنا الحب في الموت والدفن، فلا نغفر، ولا نشكر، ولا نصفح عن أبينا لأننا أردنا أن نمتدح المطلق البعيد، والغيب الذي لا نقدر على مناقشته!
كذلك هو الحب لما نفتقد..
لا تتنفس من منخرك يا هذا، ودع لي هواء الكون!
أنت رديء يا هذا، وعلى خلق الله أن يحبوا ذاتي!
انطمر في التراب، ودعني أرفل بالحرير والدانتيل!
قتلنا دهشة الحب مع أبينا قابيل
لم نعذره ولم نغفر وفعلنا فعله..
فإلى الحب نسمو.. وحين نفعل تصبح الحياة أكثر إشراقاً..
هل صحيح أن الحب حزن؟
من للمحب ومن يعينه… والحب أهنؤه حزينه
أم إن الحب هو لحظة الحب الوحيدة التي تحتاج إلى تشبث حقيقي أو معنوي؟
تعرّ أيها الإنسان من خيبتك… واصرخ في المدى: لم أُجِدْ الحب
لعل الغراب يعود ليعلمك أن الموت في هذا الحال هو الحقيقة الوحيدة..
وتدفن بقايا حب لم يعمر طويلاً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن