قضايا وآراء

الفقد السياسي

| مازن بلال

تبدو العقوبات الأميركية المتجددة على سورية حالة عبثية، فهي في ظاهرها محاولات إغلاق على مسارات جانبية لتجاوز الصعوبات، وفي الوقت نفسه تأكيد لموقف سياسي ضاغط من دون أي تحرك سياسي واضح لحل الأزمة، لكن عنق هذه العقوبات مختلف نوعيا لأن تأثيراتها في السلوك السياسي تتجاوز الحالة الاقتصادية، فالتعامل الأميركي «القلق» مع سورية ليس جديداً، وما يضفي عليه طابعا مختلفا هو الواقع السوري بالدرجة الأولى.
الشكل الأولي الذي تشير إليه العقوبات هو الحفاظ على شكل العداء القائم تجاه دمشق، فاللوائح الجديدة التي تظهر كل عام تكرس المواقف على الصعيد الدولي والإقليمي؛ لأنها لا تؤكد فقط الموقف الأميركي وإنما تفتح مساحة على المستوى الداخلي للجدل بشأن الإجراءات الجديدة، وتنقل من المستوى السياسي إلى «حالة جرمية» مرتبطة بأشخاص أو مؤسسات، فالإدارات الأميركية المتعاقبة أنشأت خلال الأزمة السورية ظلالاً لصراع تحكمه شخصيات بدلاً من «نسق سياسي» عام، وتحركه «رغبات شريرة» عوضاً عن اتجاهات وتيارات على مستوى رؤية سورية والمنطقة.
عملياً فإن العقوبات في شكلها الإجرائي توحي بأنها عملية ضغط سياسي، وبغض النظر عن الأسماء أو المؤسسات التي طالتها هذه العقوبات، إلا أنها تحاول التأثير في علاقة الشريحة السياسية بالفئات الاقتصادية داخل سورية، فعرقلة تجاوز العقوبات عبر حالات اقتصادية غير رسمية، مهما كان طرفها، هي للتعبير عن أمرين:
– الأول خلق «فقد سياسي» على المستوى العام، حيث تصبح العلاقات الاقتصادية السياسية غير ممكنة ضمن المستوى الوطني العام، وبعكس جميع الأشكال الاقتصادية الدولية وعلى الأخص الليبرالية منها، فإن تحالف المصالح بين النخب السياسية والاقتصادية يصبح متعثراً.
تعتقد الولايات المتحدة أن هذا النمط من العقوبات سيكون فعالاً في سورية لأنها مضطرة للتعامل مع شريحة من القطاع الخاص، تمتلك مرونة في التعامل مع الشركات في العالم وفي خلق فرصة لتجاوز بعض العقوبات، فواشنطن تدفع دمشق بشكل دائم إلى البحث عن شركاء جدد نتيجة تجدد الإجراءات المعيقة تجاه أشخاص ومؤسسات، وهذا الأمر يوجد تعثراً مستمراً للحكومة السورية من وجهة نظر أميركية.
– الثاني انعكاس «الفقد السياسي» على المستوى السوري العام، فالعقوبات لا تطول الحالة المعنوية فقط، بل توحي بقدرة الولايات المتحدة على التأثير العام في الأزمة ولو لم تدخل بشكل سياسي أو عسكري مباشر.
تعتمد واشنطن على نمط الإنتاج نتيجة الحرب في رسم عقوباتها، وهي تدرك أن «الحصار المالي» هو الأكثر تأثيراً في سورية نتيجة احتياجاتها الاقتصادية الحالية، فإجراءاتها وفق اعتقادها ستؤدي لظهور مواقف سياسية على المستوى الداخلي على الأقل، ورغم أن هذا الأمر غير ممكن في ظل «السكون السياسي» الذي يبدو طبيعياً نتيجة سنوات الحرب، إلا أن واشنطن وأوروبا إجمالاً تخلق محفزات جديدة في هذا الموضوع من خلال بدائل متنوعة، وأكثرها شيوعاً اليوم هو المؤتمرات والورشات التي تتناول الأزمة السورية من النواحي الاقتصادية.
لا يبدو أن العقوبات ستنتهي بشكل سريع، و«الفقد السياسي» على المستوى الداخلي لا يمكن إيقافه بإجراءات حكومية لأنه أساساً خارج أي إطار رسمي، والرهان هو على التحول في رؤية الاقتصاد السوري عموماً، وهذه الرؤية لن تظهر في المؤتمرات والورشات بل في أشكال الإنتاج التي تتجاوز ما هو سائد، وفي التعامل مع الزراعة على سبيل المثال على أنها مرجعية معرفية اقتصادية لسورية، وليست فقط إجراءات تسويق أو تحديد مواصفات فقط، فالاقتصاد السوري اليوم هو داخلي وللتنمية الداخلية للتعويض عن العقوبات كافة وعن «الفقد السياسي» المرافق له.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن