قصة ريفية متداولة، عن رئيس بلدية عاتبت والدته شقيقها كيف لم يبارك لابنها بإنجازه المحلي، فقال ما خطر بباله لحظتها، وهو أن معرفتنا بغباء الولد كانت بيني وبينك، والآن صارت كل القرية تعرف.
مقولة مشابهة متداولة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، الذي يسمح لكل الناس بتقمص الأدوار التي تشاء، وممارسة فهمها على مستوياته في كل مجالات الحياة، أحياناً عبر سرقة ما يقوله الآخرون، وأحياناً أخرى عبر تقمص شخصيات وأسماء الآخرين لتمرير ما يرغبون في قوله، والحصول على إشارات الإعجاب، وخصوصاً إذا وضعت على لسان شخصيتك المزيفة ما يرغب البعض في سماعه، ومن ثم التصفيق له.
لكن هذا الاغتراب عن النفس عبر الهروب لغيرها، الذي يتيحه الموقع الاجتماعي ليس علته الوحيدة، فهو كرس عادة هي من أسوأ عاداتنا تتمثل في المجاملة وإخفاء النقد المدروس، مقابل «تمسيح الجوخ» وتسجيل علامات رضى، فيما تحفل الجلسات الخاصة بآراء معاكسة، ومثال ذلك شهر الدراما السورية الأخير الذي حفل بمجاملات ملأت صفحاته بين نجوم الدراما وصانعيها، حول الأعمال المنفذة، من دون أن يتجرأ إلا القليل منهم على إبداء رأي نقدي حقيقي يكشف عيوب بعض هذه الإنتاجات كتمهيد نحو تحسين واقعهم، وهو أمر ربما البعض يعتبره جيداً لكونه يخلق مناخاً إيجابياً بين أبناء الكار، لكنه مناخ كاذب، يستند إلى هويات مزيفة تحكي بوجه وتفكر بآخر، لأن «الحال باتت هكذا وعلينا الاندماج»، تماماً كما هي ذات الحال على صفحات التواصل حين تكون مضطراً لمقابلة كل إعجاب بمثله حتى لو خالف رأيك، والرد على كل تعليق مهما بدا تافهاً، والانقياد، وفقا لحدث أو قصة رائجة، وهو المصطلح الذي نعبر عنه بالعامية الشامية بـ«الانجلاق»، فيصبح عليك أن تحب مسلسلاً لأن الجميع أحبه وإلا، ويصبح عليك أن تعلق على صورة طفل حزين لأن الكل فعل، وتصبح وفاة ممثل شهير هي الفرصة التي لم تأت إلا مرة واحدة لحصد مزيد من الإعجابات، فتتحول كما غيرك لفرد في الجوقة من دون هوية خاصة، ومن دون آراء تميزك كفرد، ومن دون نبرة صوت مميزة، ومن دون منطقك الخاص أو منظورك الفردي، الذي يعود شيئاً فشيئاً للجلسات الخاصة، والهمس في غرف الأصدقاء، لأن ساحة التعبير الافتراضية تلك تحولت لساحة سعار وصريخ وهياج ومجاملة ونرجسية متنامية، لدرجة أن موت رجل خسيس محدود الأفق، يمكن بالهياج المناسب أن تتحول لحدث تاريخي، عبر اختيار زوايا التصوير المناسبة، والجمل المناسبة ليركب الجميع ركبك ويسوقون خلفك، من دون محاكمة، ومن دون ضمير ومن دون أي مواجهة مع الذات أو مع التاريخ.
لقد منحتنا التكنولوجيا في السنوات الأخيرة خيارات واسعة جداً، عززت من فرصنا، ووسعت آفاقنا المعرفية، ووضعت العالم في أيدينا، وقدمت لنا المعلومة التي كان آباؤنا يحتاجون عبور المحيطات للوصول إليها.
روضت المستحيل، وذكرتنا بأن كل شيء ممكن، وأننا كبشر خلق خاص بعقول لم يكتشف العلم كل طاقتها، ونمتلك القدرة على تغيير واقعنا والانطلاق للأمام.
ما الذي فعلناه بكل هذا؟ سخرناه للكثير من السخف والزيف والمجاملة الكاذبة، ونسينا طاقته الحقيقية والفرص الجدية التي يمنحها لنا.
رغم ذلك كل يوم تقريباً، أضع سبابتي على الأيقونة الزرقاء، حتى أراها تهتز، ولكن حتى اللحظة لا أقوى على حذفها. وكثر مثلي.