لم تظلم الجغرافيا كاتباً كما ظلمت (جبرا ابراهيم جبرا) فنكبة فلسطين عام 1948 اقتلعته من بيت لحم التي ولد فيها، ومن القدس التي كان يقيم فيها ويعلّم عشية النكبة، وقذفت به إلى بلاد اللـه الواسعة.
وصل في البداية إلى دمشق في محاولة لإيجاد فرصة عمل للإقامة فيها، وبالمصادفة عرف، بعد وصوله إليها بوقت قليل، بوجود بعثة عراقية قدمت لانتقاء أساتذة للتدريس في بعض الكليات العراقية، كان يرأسها الدكتور عبد العزيز الدوري، وخلال وقت قصير بعد لقائه مع الدوري تم التعاقد معه، وسافر إلى بغداد، قد يكون دار في خلد هذا المثقف الفلسطيني النابه الذي كان يحمل شهادة الماجستير في الأدب والنقد من جامعة كيمبردج العودة إلى فلسطين، لكنه أقام في بغداد كل حياته، وتزوج امرأة عراقية كانت زميلته في التدريس في الجامعة اسمها (لميعة العسكري) ورزق منها بولدين، ومع ممارسته التدريس في الجامعة في بغداد، بدأ بكتابة الشعر والقصة والرواية والنقد والبحوث، ولاسيما في الفن التشكيلي على الخصوص، كما ترجم عدداً من الكتب عن اللغة الإنكليزية التي كان يجيدها، وفي بغداد أسهم إسهاماً فاعلاً في الحياة الأدبية والشعرية والثقافية على الخصوص، وفيها أسهم – وهنا الأمر المهم- في إيجاد بيئة علمية وتنويرية متطورة متصلة أوثق اتصال ببؤر الحضارة في العالم الحديث.
ومع أن جبرا ابراهيم جبرا أقام طوال هذه الفترة الطويلة في العراق، واستحصل على الجنسية العراقية، وبنى له بيتاً في حي المنصور في بغداد، وهو من أحياء بغداد الراقية، إلا أنه ظل ينظر دائماً إلى نفسه كما كان ينظر إليه الآخرون على أنه مواطن أو مهاجر فلسطيني، صحيح أنه أحب العراق وشعبه، وأحبه العراقيون، إلا أنه ظل غريباً غربة روحية كاملة أو شبه كاملة في العراق، لكونه فلسطينياً عربياً، قدم للأجيال العراقية الشابة، سواء في المدارس والجامعات، أو في الحقل الثقافي خدمات لا يمكن لأحد أن يجحدها، وقد وجد في العراق من أخذ على بعض المسؤولين فيه مراعاة جبرا أو تدليله أو عنايتهم به عناية خاصة، ولاشكّ في أن استعانته بالموسيقا الكلاسيكية، بيتهوفن، وباخ، وموزارت، وتشايكوفسكي وسواهم من عمالقة الموسيقا العالمية أمنت له الكثير من التوازن والصحة النفسية، ولقد كتب عنه الدكتور عبد الواحد لؤلؤة وهو أحد تلامذته قائلاً: «إن الموسيقا الكلاسيكية كانت زاده اليومي يعيش معها طوال ساعات النهار والليل (الغراموفون) في زاوية الغرفة أو الصالون، ينوء بست أسطوانات طويلة الأمد تتساقط فوق بعضها كل نصف ساعة، وكان صوت الموسيقا يعلو على صوت رنين الهاتف الذي كان يدق في بيته ولا يسمعه، لأن صوت الموسيقا الغربية كان هو الصوت الطاغي، ولم يكن صوت جرس منزله إذا قُرع أكثر تأثيراً أو نفوذاً من صوت الهاتف».
وأخيراً فقد أمنت الموسيقا لجبرا ابراهيم جبرا، هذه الراحة النفسية التي نتحدث عنها، فالموسيقا والفن التشكيلي والكتب الأجنبية ساعدته على ملأ فراغه اليومي، ورحم اللـه الشاعر القديم حين قال: «قد يلطف اللـه بالبلوى وإن عظمت»، ومن عرف جبرا، كيف عاش في بغداد، ولاسيما في السنوات الأخيرة التي سبقت وفاته، يعرف كم كانت قدرة جبرا قوية على التمركز في الذات، وكذلك على الصبر والتحمل، ففي منزله في بغداد كان يقرأ ويكتب ويدخن السيجارة، ويستمع إلى الموسيقا الأجنبية.