لا بد من التوقّف لحظات، لتوضيح ما أعنيه بالتراث الشعبيّ، وخاصة بعد أن أصبح هذا التراث بمنزلة الميراث الشعبي أو القومي للمجتمع، بكل ما في ذلك من مضامين روحية وفكرية وعملية لكون هذا التراث ترجماناً لأحوال المجتمع على مرّ العصور. أكان هذا التراث مادّيا أو لا غير مادي، يبدو ذلك بالحكاية الشعبية والأحجية، والمثل والحرفة، بل أيضاً الأغنية الشعبية على تعددها وتنوعها بجميع مناسباتها إلى آخر ما هنالك من روافد لهذا التراث.
وإن كانت نظرة المؤرخين ، فيما مضى وحتى عصر النهضة الأوروبية تقوم على اقتصار تراث الشعب على الأوابد التاريخية، والآثار الشاخصة بالمتاحف وعلى ما قدمه الدارسون من كتاب وشعراء وبالتالي ما قام به القادة من معارك وفتوحات، وإذا كان الأمر كذلك، فإن النظرة المتفحصة للتراث الشعبي، قد تتبدل في هذه الأيام، حيث أصبح مفهوم التراث الشعبي يضم ما يصدر عن جميع أفراد الشعب من عادات وتقاليد وتعامل وموقف، إزاء ما يواجههم من صروف الحياة، خيرا كان ذلك، أم غير ذلك.
وهذا الوضع جعل نظرة الباحثين بالتراث تتبدل بتبدل ما يصدر عن المشبب من فن أصيل يتوسل إليه بالكلمة واللحن والتشكيل، فضلاً عن عناصر الثقافة الشعبية الأخرى التي تزخر بها حياة الشعب أو المجتمع بكل ما بذلك من غنى مادي وروحي وميثولوجي، لما لهذا التراث من مقدرة على حمل معتقد الشعب وعاداته وتقاليده وصناعاته التقليدية وأدبه الشعبي، فكان أي تبدل بحياة الشعب ينعكس على حياته ليشكل جانباً من تعاملهم وتعايشهم.
ونذكر على سبيل المثال، ما كان من تقاليد الخطبة والزواج وما يندرج بذلك من الليالي الملاح، إلى ليلة العرس والعراضة الخاصة بذلك.. وصولاً إلى تقاليد الحمل والولادة، وما يتصل بذلك من أغاني المهد والطفولة.. إلى آخر ما هنالك من أمور توافق عليها الناس، ولا يجوز لأحد الخروج عليها أو تجاوزها.
ويدخل بهذا كله، ما كان بمسميات هذه المدينة من أحياء وأزقّة وحارات، وما كان لأهل هذه المدينة من عطاء بالمنشآت الخيرية والعملية أكان ذلك لخدمة مدينة دمشق أم الوافدين إليها من المدن والأرياف من الأقطار العربية الأخرى، فضلاً على ما كان لذلك من دورٍ بحياة أهل دمشق.
وإذا تذكرنا ما عشناه، ومن عاصرناه بالنصف الأول من القرن العشرين، لكانت ذكريات الحياة بالكتاتيب ومع مسحر رمضان (أبو طبلة) وبالتالي عربات الترام (الترامواي) من الصور التي تجعل تراثنا الشعبي حكاية تاريخ بلادنا، بما بذلك من متعة، حتى إن الواحد منا يكاد يقول: أنا ذلك التراث المشرق الذي يعانق الشهب، أينما كان وكيفما كان، لما يتوّج ذلك من أواصر المحبة والإيثار، التي طبعت الإنسان بطابعه وتوجتهه بفخارها حتى لكأنها الدم الذي بعروقه.
وبالطبع، فقد كان لدور دمشق طابعها بما استخدم بها من مواد بناء وبما هي عليه من توزيع لأقسام وغرف، ومن كان يقيم بها من أناس أكان ذلك الحماية، أم السلايف (زوجات الأخوة)، وما كان بين بنت الأحمى (وهي أخت الزوج) والكنّة والسلفة والضرة، بالأسرة التقليدية.. إلى آخر ما هنالك بالبيت والدخلّة (وهي الحارة الضيقة) والحارة العادية والزقاق والحي من أناس تقوم الحياة بينهم على المحبة والإيثار حيناً وعلى حب الذات وإنكار الآخر، مما يجب عليه الحال بين الحماية وأفراد الأسرة الآخرين، بأحياء دمشق التقليدية.
وبهذا الإطار، فإن بالإمكان إطلاق اسم الحارة على عدد من البيوت المتلاصقة المتراكبة، حيث يمكن أن تدخل غرفة من بيت ببيت مجاور، كما قد تركب غرفة جانبا من الطريق فتغطيه، فيطلق على ذلك الجانب من الطريق اسم تحت الصيبات. وإذا كانت الحارة توصل إلى زقاق فإنهم يطلقون عليها اسم زابوقة، كما يطلقون على الحارة التي لا تتسع لمرور شخصين متلازمين اسم زاروب.
وإذا كان من سكان الحارة، رجل أو امرأة دور إيجابيّ بالحارة، فقد يطلق اسم تلك الحارة على أي منهم رجلاً كان أم امرأة، ومن ذلك دخلة أم نعيم الداية، وحارة بيت الحمصي، بمحلة القراونة من حي الشاغور، وقد يطلق على الحارة اسم سمة خاصة بها كحارة الدبّة بزقاق الحكر بالشاغور، وحارة ستي نفيسة عند مدخل باب الحديد مقابل جامع الباشورة بحي الشاغور أيضاً.
أما الزقاق، فهو ما كان أكثر عرضاً أو اتساعاً من الحارة وهو يشمل عدداً من الحارات المتصلة كزقاق الحكر وزقاق الشيخ بالحي نفسه وحارة الشالة (الشالق) إلى الغرب من بداية نزلة جورة الحدباء بحي سوق ساروجة. ولعل من الطبيعي الإشارة إلى أن ما أوردناه بهذا البحث ينطبق على الأحياء التقليدية القديمة من مدينة دمشق، ودون الأحياء الأحدث عمراناً كحي المالكي وأبو رمّانة أو حي القصور.