نال الاجتماع المزمع عقده في حزيران الجاري على مستوى مستشاري الأمن القومي لكل من روسيا والولايات المتحدة وإسرائيل في القدس المحتلة قسطاً وافراً من تسليط الأضواء عليه خصوصاً من قبل دوائر السياسة والإعلام الإسرائيلية مما يشير إلى حجم الآمال المعلقة عليه، وذاك أمر لم تخفيه هذي الأخيرة بل إن البعض منها كانت له شطحات وصلت إلى حدود إطلاق العنان إلى مستويات عاليه.
ترى دوائر الإعلام والسياسة الإسرائيلية، والأميركية بدرجة أقل، أن مجرد انعقاد الاجتماع في القدس يمثل دليلاً لا لبس فيه على مدى اهتمام موسكو بوجهة النظر الإسرائيلية قياساً إلى جدول أعمال اللقاء الذي قيل إنه سيطغى عليه بند واحد هو التركيز على الدور الإيراني في سورية ولبنان بوصفه بات يمثل تهديداً للكيان الإسرائيلي، حتى إن القناة العبرية الثالثة عشرة كانت قد ذكرت قبل أيام أن الوفد الإسرائيلي سيتقدم بخطة جاهزة تحمل تصوراً متكاملاً حول سبل معالجة ذلك التهديد وأن الروس على دراية بخطوطها العريضة، مع تسجيل اعتراض روسي على هذه الأولوية التي ترى موسكو أنها يجب أن تتمحور حول اليوم التالي لانتهاء الحرب في سورية.
وفق الرؤيا السابقة عملت تل أبيب على تكثيف رسائلها أخيراً التي لم تعد للإيرانيين وحدهم بل أضحى معظمها يستهدف البريد الروسي، الأمر الذي يمكن أن يفسر سعار الغارات الإسرائيلية المحموم على مواقع في الداخل السوري والتي تقول تل أبيب إنها تستهدف بالدرجة الأولى مواقع إيرانية وأخرى لحزب اللـه، والراجح أن تلك الرسائل تريد أن تقول إن التردد الروسي في لحظ التهديد الإيراني لإسرائيل من شأنه أن يضع موسكو أمام احتمال ضياع العديد من المكتسبات التي حققتها على الساحة السورية.
من المؤكد الآن عشية اجتماع القدس المرتقب أن الرؤيا الإسرائيلية، وكذا الأميركية، باتت على اقتناع تام بأن إخراج إيران من سورية هو أمر مستحيل عسكرياً ناهيك عن أن توجه كهذا يحمل من المخاطر الكثير مما يمثل مراكمة في برميل بارود لا أحد يعرف متى يمكن أن يؤدي تراكمه الكمي إلى تحول نوعي من شأنه أن يقلب الصورة رأساً على عقب، ولذا فإن الجهد العسكري، وفق القناعة السابقة الذكر، لا بد أن يترافق مع نظير سياسي له ووحدها موسكو هي القادرة على تقديم ما يلزم لإنجاح تلازم المسارين.
السؤال الأهم هنا هو: هل ترغب موسكو فعلاً تلّبس ذلك الدور؟ وإذا كان الجواب على السؤال السابق نعم، وتلك رؤيا ضيقة، فهل هي قادرة فعلاً على أداء تلك المهمة؟
ما يعاب على النظرة الإسرائيلية التي عرضنا لها أعلاه هو أنها تقوم أساساً على تثبيت الصورة على مشهد جزئي مقتطع من صورة لا تكتمل ملامحها إلا بمشاهدتها كاملة.
كانت النظرة الإسرائيلية الأولية للتدخل الروسي في سورية خريف العام 2015 تؤكد سلبية هذا الفعل الأخير بالنسبة للمصلحة الإسرائيلية انطلاقاً من أن التدخل أساساً سوف يحبط الرهان الإسرائيلي المتمثل في نقل سورية إلى محور «دول الاعتدال العربي» ذي النظرة المعروفة تجاهها، لكن تل أبيب كانت قد سارعت عبر ممرين إلى التكيف مع مخرجات «عاصفة السوخوي» أولاهما عبر قنوات التواصل مع واشنطن التي كانت لها تفاهماتها مع موسكو، وثانيهما تفهم تل أبيب لمطالب موسكو من الصراع الدائر في سورية ما مكنها من رسم دائرة محرماته واللعب خارج تلك الدائرة، والمؤكد الآن هو أن التقديرات الإسرائيلية كانت ترى أن «إيران في سورية» هي خارج تلك الدائرة، ومن ثم تم العمل على تفعيل التباينات الروسية الإيرانية والرهان على إمكان تنميتها لإيصالها إلى حال من التناقض الذي لا يقبل التقاطعات مهما اتسع الوعاء البراغماتي.
يبدو أن المشهد الدولي اليوم قد بات محكوماً بثنائية لم تتبلور معالمها جيداً بعد، طرفها الأول مثلته الدول التي أحيت الذكرى 75 لإنزال النورماندي في «فير سور مير» شمال غرب فرنسا في 6 حزيران الماضي وقد استبعد من الاحتفال الرئيس الروسي في إشارة واضحة إلى تراصف معين على الرغم من أن روسيا كانت شريكاً أساسياً في الانتصار الذي أحيته الذكرى، وطرفها الثاني هو قمة موسكو الأخيرة التي قال فيها فلاديمير بوتين، بحضور الرئيس الصيني، إن الدولار أصبح أداة بيد الولايات المتحدة للضغط على دول العالم وإن الاقتصاد العالمي قد دخل مرحلة الحروب التجارية، والمؤكد أن إيران تحجز لها مقعداً في هذا الطرف.
هذه الثنائية التي ستحكم المشهد الدولي للمرحلة المقبلة ستؤدي إلى إثخان جراحها في النظام الدولي الآخذ بالتحلل مند حين، بل وستدفع به نحو الاحتضار في فترة تطول أو تقصر تبعاً لتطورات الأحداث ومفاعيلها التي ستتخذ العديد من المظاهر الغنية بتنوعها، وكتكثيف للمشهد يمكن القول إن القديم قد دخل مرحلة الاحتضار لكن الجديد لا يستطيع أن يولد بعد، وفي مرحلة دقيقة كهذه لا بد أن يوضع في الحسبان أنه غالباً ما تغيب التحالفات الثابتة والراسخة لتحل محلها تقاطعات ظرفية تظهر كأنها هي الحاكمة للسياسات التي تعتمدها أغلبية الدول، لكن على الرغم من ذلك فإن من الصعب تخيل مشهد راسم لتخلي موسكو عن الورقة الإيرانية.