جوليا دومنا صورة مشرقة للمرأة السورية … تربعت على عرش الإمبراطورية الرومانية وحكمت نصف العالم
| المهندس علي المبيض
كنا قد عرضنا في المقالات السابقة لمحةً موجزةً عن المعالم التاريخية في سورية وتطرقنا للحديث عن القلاع والحصون كأحد المعالم الأثرية الرئيسية في القطر وشاهداً حياً على صمود السوريين وشموخهم واستبسالهم في الدفاع عن أوطانهم وابتكارهم أساليب شتى وطرقاً مبتكرةً لتحقيق ذلك، ونهدف من وراء ذلك إلى تسليط الضوء على بعض المحطات المهمة في التاريخ السوري وذلك مساهمة منا في إبراز دور الهوية السورية المشرفة. ونؤكد في هذا المقال مجدداً أن من واجبنا جميعاً جهات عامة وخاصة وأفراداً العمل على تنقية تاريخنا من أي شائبة وإزالة أي تهمة يحاول أعداؤنا إلصاقها به لأن أي تشويه لهذا التاريخ إنما هو محاولة للإساءة الشخصية لكل فرد فينا، ومن الضروري أن يعلم الجميع أن أعداء سورية يسعون باستمرار وبشتى الطرق والأساليب لتشويه التاريخ السوري وتزويره ونسب الأعمال المشينة له وإلصاق كل الصفات القبيحة والمذمومة به بهدف إلغاء ذاكرة الجيل وبتره عن ماضيه فيسهل بالتالي الانقضاض عليه وهزيمته.
ونهدف من وراء تلك المقالات أن يكون القارئ على معرفة بتراثه والدور الذي لعبته سورية عبر تاريخها الطويل وأن سورية منتجة للحضارة وليست متلقية لها.
لنصل معاً لقناعة بأن الإنسان السوري الذي ساهم منذ القدم في صنع هذا التاريخ المشرف وشارك في بناء الحضارات المتعاقبة جدير بأحفاده اليوم إعادة بناء ما تهدم ورأب ما تصدع والمشاركة بفعالية في المنظومة الحضارية والمحافظة على مخرجات تلك الحضارات التي يحاول أعداؤنا بشتى الطرق والأساليب تدميرها أو تزويرها أو تشويهها… والتي تشهد على عظمة هذا التاريخ الذي يمتد لأكثر من مليون عام.
وصلنا اليوم للحديث عن القلاع في محافظة حمص لكن وقبل الحديث عن القلاع والحصون في حمص لابد أن نعطي لمحة موجزة عن المدينة.
تقع حمص وسط غرب سورية فهي تبعد عن دمشق مسافة 162 كم وإلى الجنوب من حلب 192 كم وإلى الشرق منها تبعد تدمر 150 كم وقد عرفت حمص منذ القديم باسم إيميسا وهي باللغة اليونانية، ويذهب بعض الباحثين إلى أن اسم إيميسا هو آرامي وبكل الأحوال فقد اختصر الشطر الأول من الاسم إيميس إلى حمص بعد الفتح العربي لهذه المنطقة، وتعتبر حمص مدينة تاريخية قديمة توالت عليها حضارات عديدة منذ الألف الثالث قبل الميلاد وحظيت برعاية الأباطرة الرومان وبخاصة الأباطرة السوريون الذين اعتلوا عرش الإمبراطورية الرومانية، ويعود السبب في ذلك لموقعها الإستراتيجي المهم الواقع في وسط بلاد الشام وخصب أراضيها ومناخها المعتدل إضافة إلى موقعها التجاري المهم إذ تشكل صلة الوصل بين مختلف مدن المنطقة، ولقد أثبتت اللقى الفخارية التي تم العثور عليها في حمص وتحديداً في تل حمص أو تل أسامة الذي يبعد عن نهر العاصي نحو 3 كم أن هذا الموقع كان مسكوناً منذ النصف الثاني للألف الثالث قبل الميلاد كما تم العثور أيضاً على بعض اللقى التي تثبت أنها كانت موجودة في العصر البرونزي والعصر الحديدي والعصر الحجري.
وفي القرنين الأول والثاني قبل الميلاد كانت تضم حمص معبد الشمس وكانت قلعة حمص تضم حجرة مذبح هذا المعبد وكان مخصصاً لإله الجبل ايلاغابال الذي كان يحتوي الحجر المقدس حيث تم نقله إلى روما في عصر الإمبراطور السوري إيلاغابال حفيد جوليا دومنا الذي حمل اسماً مقدساً بوصفه حامي الهيكل.
ازدهرت حمص في القرنين الأول والثاني الميلاديين، وبدأت تفرض وجودها على الساحة عندما حكمتها أسرة شميسغرام التي انتزعت السلطة من أيدي السلوقيين عام 96 م، وأخذت حمص بالاتساع والتطور ونافست حمص العديد من الممالك التابعة للإمبراطورية الرومانية حيث قام الملوك الذين تعاقبوا على حكم حمص في تلك الفترة بصك النقود باسمهم وباتت تشكل خطراً على روما وتهدد سيطرتها على الإمبراطورية.
ويعتبر نهر العاصي من أشهر ملامح مدينة حمص وأحد مكوناتها الرئيسية وهو يحتل جزءاً مهماً في الذاكرة الشعبية، ينبع نهر العاصي من هضبة بعلبك في لبنان ويجري ضمن محافظة حمص وحماة وإدلب ثم لواء إسكندرون ويحيط بمجراه في الأراضي السورية العديد من المواقع الأثرية، ما يدل على استيطان الإنسان هذه الضفاف منذ القدم وقد ورد اسم نهر العاصي في حوليات الملوك الآشوريين منذ الألف الأول قبل الميلاد باسم آرانتو، وترتبط قصة وجوده بأسطورة التنين طيفون الذي ضربته الصاعقة وحاول الهرب من النار المنتقمة فحفر مجرى متعرجاً وهبط تحت الأرض وتسبب بنبع المياه التي جرت ضمن هذا المجرى وأصبح نهراً، وفي العصر الروماني أطلق على النهر اسم أورنت أي الشرقي وسماه الجغرافيون العرب الأرنط أو الأرند أي المتمرد الذي يرتبط باتجاه جريانه من الجنوب للشمال عكس معظم أنهار القطر، وكانوا يسمونه للسبب ذاته النهر المقلوب ويعلل أبو الفداء مؤرخ حماة سبب التسمية بأن معظم الأنهار تسقي الأراضي الزراعية المجاورة للنهر بالراحة أي من دون الحاجة لوسائل مساعدة إلا نهر العاصي إذ لا يقدم ماءه إلا عنوةً ورغماً عنه وذلك بواسطة النواعير.
وتضم حمص قبر خالد بن الوليد في الجامع الذي حمل اسمه وهو أحد مقومات السياحة الدينية بالمدينة، شيد الجامع على أنقاض جامع مملوكي خلال فترة وجود العثمانيين، كما يعتبر الجامع النوري الكبير أقدم مسجد في حمص وقد أنشئ في مكان معبد الشمس نفسه وتعود تسميته إلى نور الدين زنكي الذي أعاد إنشاء هذا الجامع وجددت المئذنة في العصر الأيوبي، وتضم حمص أيضاً عدة كنائس تاريخية قديمة مثل كنيسة أم الزنار وكنيسة سيدة باب السباع وكنيسة القديس أنطونيوس الكبير وكنيسة مار إليان وهي تخلد ذكرى ضابط روماني قديم، وتم العثور فيها على لوحات جدارية تعود للقرن الثاني عشر الميلادي، وكانت حمص في العهد الأموي مسورة ويضم السور أربعة أبواب هي باب الرستن أو باب السوق وباب الشام وباب الجبل وباب الصغير وفي العصر العباسي أصبح لها سبعة أبواب هي باب السوق أو الرستن وباب تدمر وباب الدريب وباب السباع وباب التركمان وباب المسدود وباب هود.
ويعد تل النبي مندو من أهم المواقع الأثرية في سورية فهو يضم آثار عدة حضارات قديمة متعاقبة يعود أقدم ما اكتشف فيه إلى الألف الرابع قبل الميلاد، ورد ذكره في رسائل تل العمارنة أي في عصر رمسيس الثاني تحت اسم مدينة قادش وكان لهذه المدينة أهميتها في العصر الآرامي وازدهرت في العصر الروماني وعرفت باسم لاوديسيا.
وبمناسبة الحديث عن ملامح مدينة حمص التاريخية لابد لنا من أن نشير إلى الإمبراطورة السورية جوليا دومنا وهي صورة مشرقة للمرأة السورية، ولدت جوليا دومنا في حمص أواخر القرن الثاني الميلادي وتزوجت من القائد العسكري الروماني سيبتيموس سيفيروس الذي أصبح فيما بعد إمبراطوراً رومانياً وانتقلت عائلة الملكة وحاشيتها من حمص إلى روما وأصبح تأثير السوريين في الحكم فاعلاً ومؤثراً، منحتها روما لقب «المعظمة» ولقب «أم الوطن»، لم تكن سيدة القصر الإمبراطوري في روما امرأة عادية بل كتلة من المواهب العبقرية، وأنشأت جوليا دومنا صالوناً ثقافياً في أثينا عرف بصالون الإمبراطورة، اهتمت جوليا دومنا كثيراً بالآداب والفنون والفلسفة وكانت على قدر كبير من الجمال وتمتلك الكثير من المواهب المتميزة كحدة الذكاء وشدة الدهاء والجرأة والحزم والتخطيط لكل تصرفات زوجها الإمبراطور سيبتيموس وكانت سر نجاحه وسيطرته على أنحاء الإمبراطورية التي كانت تحكم نصف العالم.
وأدنت جوليا دومنا إلى بلاطها الأدباء والفلاسفة والمثقفين والحقوقيين وجميعهم من أصل سوري كما اعتلى ابنها كراكلا عرش روما بعد وفاة القيصر سيبتيموس وبعده حفيدها إيلاغبال ومن ثم ابن خالته سيفيروس كما عملت على جلب أختها جوليا ميزا من حمص وابنتي أختها «جوليا سوميا» و«جوليا ماميا» واللواتي شاركن بصنع تاريخ روما واعتلين عرشها الإمبراطوري بالتتالي.
وأدى ذلك إلى انتشار الثقافة السورية وتزايد نفوذ السوريين في الإمبراطورية الرومانية ونشر العادات والتقاليد السورية وصبغ المجتمع الروماني بالصبغة الشرقية، هذا التحول دفع الشاعر الروماني فرجيل ليقول: إن نهر العاصي يصب في نهر التيبر منذ زمن بعيد حاملاً معه لغته وتقاليده وثقافته. (نهر التيبر هو ثاني أطول نهر في إيطاليا ويرتبط تاريخ روما بتاريخ هذا النهر الذي يخترق العاصمة الإيطالية ويصب في البحر الأبيض المتوسط).
ونتيجةً لذلك فقد زاد الاهتمام بهذه المنطقة وازدهرت وحظيت تدمر على سبيل المثال بعناية خاصة ووصلت إلى أوج ازدهارها في ظل اعتلاء السوريين لعرش الإمبراطورية الرومانية، وحازت تدمر في عهد الإمبراطور كراكلا لقب «مستوطنة رومانية» فأصبحت تعادل روما ولا تدفع لها الضرائب.
واليوم يجد السوريون في تاريخهم المجيد ينابيع مختلفة لثقافة ثرية متنوعة خصبة يمكن أن تشكل عاملاً موحدأ وأرضيةً مشتركةً ثابتةً لبناء الحاضر واستشراف المستقبل وهي تساهم بشكل كبير في تقريب وجهات النظر.