قالت «الواشنطن بوست» الأميركية قبل أيام: إن انتقاد الرئيس الأميركي دونالد ترامب المتواصل لإيران قد يدفع بالولايات المتحدة إلى نقطة القتال المحتمل.
قول الصحيفة شديدة الالتصاق بغرف صناعة القرار الأميركي، يلحظ انتفاء رغبة الرئيس الأميركي للحرب التي لم يكن من مؤيديها في أفغانستان ولا في العراق، فكيف والأمر له موجباته الكبرى اليوم في الحالة الإيرانية، لكنه يلحظ أيضاً أن مراكمة العداء سوف تؤدي إلى خلق مناخات تشنجيه قد لا تجد إدارة ترامب طريقة للخروج منها سوى الحرب.
حتى هذه اللحظة وبالرغم من أن التقارير تسجل زيادة متسارعة في التحشيد العسكري الأميركي في المنطقة كانت قد استدعت قلق وتحذير الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبل يومين، إلا أن كل المؤشرات، دون وجود أي استثناء لها، تؤكد أن واشنطن لا تزال بعيدة عن قرار إشعال الحرب الرابعة في الخليج والتي إن وقعت فلسوف تكون مختلفة بالتأكيد عن سابقاتها الثلاث بكل المقاييس.
لربما جاء التوجه الأميركي الأخير، والمسنود بريطانيا، الذي أعقب حادثتي استهداف ناقلتي النفط في بحر عمان مفسراً لتراتب إستراتيجي جرى بناؤه لبنة لبنة منذ أن اتخذ الرئيس الأميركي قراره الشهير بإلغاء الاتفاق النووي مع إيران في أيار من العام 2018، ففي أعقاب هذا الحدث الأخير تبدو واشنطن وكأنها ماضيه نحو تدويل مضيق هرمز، والراجح أن هذا الأمر كان هو السبب الأساس وراء دعوة واشنطن مجلس الأمن إلى جلسة مغلقة انعقدت بعيداً عن الأضواء في الخامس عشر من حزيران الجاري، وفي اليوم التالي لذلك الاجتماع رجحت «التايمز» البريطانية قيام دول غربية عدة بإرسال قوات عسكرية لضمان أمن الملاحة وعبور الناقلات في مضيق هرمز، والأمر، تضيف «التايمز»، بدا أكثر إلحاحاً بعد حادث بحر عمان سابق الذكر بالتزامن مع الإعلان عن إخفاق مبادرة رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي في تحقيق اختراق على طريق واشنطن طهران.
يبدو أن الخيار الأميركي حتى هذه اللحظة ينحصر في اجترار لنجاح قديم لا يزال راسخا في عمق الذات الإيرانية بكل أوجاعه وترسباته، والمقصود به هو عملية «اجاكس» التي نفذتها وكالة الاستخبارات الأميركية CIA بقيادة الضابط كيرميت روزفلت عام 1953 والتي نجحت بعد فشلين سابقين في الإطاحة برئيس الوزراء الإيراني الأسبق محمد مصدق وهي العملية التي اعترفت بها الوكالة في العام 2013.
اعتمدت «اجاكس» على خلق حالة تحريضية قصوى ضد سياسات مصدق الذي قام بتأميم النفط في بلاده، وقد اتخذت تلك الحالة منحيين اثنين أحدهما داخلي كان يقوم على عملية ربط لشبكات مصالح كبرى متلاحمة مصيرياً بنظام الشاه الذي كان قد هرب إلى إيطاليا بعد أن عين الجنرال فضل اللـه زاهدي حاكماً في أثناء غيابه بعد أن تلقى وعوداً من روزفلت بأن ذلك الغياب لن يطول، وكذلك ربطها من جهة أخرى مع الطبقة الوسطى القلقة بطبعها وقد جرى إيهامها بأنها هي المتضرر الأول من مشروع تأميم النفط، وثانيهما خارجي وكان يهدف إلى شيطنة مصدق دولياً بغية خلق حالة مساعدة لإسقاطه بعد إظهاره كحالة شاذة تسير في عكس اتجاه مصالح إيران والعالم.
اليوم لا يبدو أن من الصعب تلمس ذينك المنحيين السابقين في طريقة التعاطي الأميركي مع الأزمة الإيرانية المفتعلة، بل من الجائز القول إنهما باتا الآن أكثر وضوحاً من سابقتيهما مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، لكن مع تسجيل فارق أساسي فيما بين الحالتين يتمثل في أن عامل الوقت اليوم لا يلعب لصالح طهران بعكس ما كان الأمر عليه إبان عملية إسقاط مصدق وهو ما دفع بواشنطن إلى تكرار العملية لثلاث مرات خلال مدة قصيرة لا تزيد على عام واحد.
هناك اليوم عشرات الموانع الرادعة لواشنطن في سعيها إلى شن عملية عسكرية من شأنها كسر إرادة الإيرانيين، لكن يمكن من بعيد لحظ شيء مهم هو أن حالة التروي الأميركية المثيرة للدهشة جراء عدم استثمار «سيناريو الصورة» بعد أن عرضت صوراً لاقتراب زورق إيراني من إحدى الناقلتين المستهدفتين في بحر عمان بعكس ما جرى في حالة استخدام كولن باول وزير الخارجية الأميركي الأسبق للسيناريو نفسه شباط 2003، تلك الحالة مردها إلى رؤية أميركية مفادها أن أدنى خطأ في الحسابات الأميركية الدقيقة يمكن له أن يستنسخ سيناريو عام 1956 عندما أدى خطأ الحسابات البريطانية والفرنسية على حد سواء إلى أفول شمس الإمبراطوريتين معاً، فحال التوازنات الدولية اليوم بالغة الهشاشة، والسطوة الأميركية تعيش تراجعاً يتزامن مع تململ روسي صيني مشروع وله مبرراته الموضوعية، ومن المؤكد أن كلا من موسكو وبكين ترقبان ما يجري بدقة بل تعيشان حالة انتظار بفارغ الصبر لقدوم خريف عام 1956 الذي تلوح تباشيره.