من دفتر الوطن

على أعتاب العدمية

| حسن م. يوسف

قبل سنوات، كنت أعتقد بشكل جازم حازم، أنه ليس أمام بلداننا النامية في عصر التحديات المتلاحقة والتطورات المتسارعة، سوى أن تأخذ بنصيحة الشاعر الألماني ماورر الذي يقول في إحدى قصائده:
«كي يمتلئ برميلك المثقوب بالماء الق به في التيار!»
فقد كنت مقتنعاً أن بلداننا النامية إذا لم تلق ببراميلها المثقوبة في تيار الحداثة للاستفادة من التطورات المتسارعة التي تغير وجه العالم، فقد تبقى مجرد براميل مثقوبة، فارغة، ملقاة على شاطئ العصر، يعبث بها الغادي والبادي!
ومع أنني ما أزال مع هذه الخيار، ربما لأنه الخيار الوحيد المتاح، إلا أنني بدأت مؤخراً أرى الوجه الآخر للحداثة، الذي يدعو للقلق أكثر مما يدعو للاطمئنان!
صحيح أن ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات قد حولت العالم إلى قرية كونية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة: هل هذه هي القرية التي طالما حلم الإنسان أن يعيش فيها؟
إن مفهوم القرية يستلزم بالدرجة الأولى قرب المسافات وحميمية العلاقات، وقد تحقق هذا نسبياً، فقد بات بوسعنا الآن، بفضل تطور وسائل الاتصال السمعبصرية، أن نطلع على الأحداث وهي تقع، وقد تنامى دور وسائل الاتصال لدرجة أنها لم تعد تغطي الأحداث وحسب بل باتت تصنعها!
والشيء المهم هو أن حضور وسائل الاتصال في حياتنا العصرية، يتزايد وفق متوالية هندسية، لأن حجمها يزداد صغراً، في الوقت الذي تكبر فيه فعاليتها آلاف المرات! وقد تنبأ المعلوماتي الشهير تيد نيلسون الذي قام بصياغة مفهومي (هايبرتيكست) و(هايبر ميديا) قبل نحو عشر سنوات، بانقراض كل أجهزة الكمبيوتر الحالية، إذ «ستتوفر قدراتها كلها في ساعة اليد، وسينظر إلى الأجهزة الحالية على أنها غريبة وبدائية ليلحقها من بعد ذلك الاندثار» كما تنبأ بأن يكون كمبيوتر المستقبل «قابلاً للارتداء كجزء من السترة مع لوحة مفاتيح تعمل بخمسة أصابع، وسيتضمن الهدفون والميكروفون، وسيكون لهذا الجهاز قدرات التسجيل الرقمي والتنقيح السمعي بالوقت الحقيقي، وسيحتوي هاتفاً وجهاز رد آلياً وبريداً صوتياً، أما تعرف الأصوات الموثوق فيها فلن يكون أمراً عجيباً تحتبس له الأنفاس»!
وقد فاقت التطورات التقنية كل التوقعات، فنحن الآن على أعتاب تقنية الجيل الخامس وإنترنت الأشياء التي ستجعل كل شيء مرتبطاً بشبكة الإنترنت بدءاً من المنازل مروراً بالشوارع والمؤسسات والسيارات الذكية التي تقود نفسها والمدن المؤتمتة والحكومات الإلكترونية، وانتهاء بالعمليات الجراحية عن بعد وكل جوانب الحياة.
المقلق في الأمر هو أن وسائل الاتصال الحديثة تتحول بالتدريج إلى وسائل انفصال وانقطاع على صعيد الممارسة الفعلية! ففي الوقت الذي تتيح فيه (شبكة الانترنت) للمشارك فيها إمكانية الاتصال بالعالم كله، يكون ذلك المشارك، منعزلا في غرفته ومنفصلاً حتى عن أولاده الذين يشاهدون التلفزيون في صالون بيته، وهذا يشكل تهديداً خطيراً لاجتماعية الإنسان، التي هي أهم سمة تميزه عن غيره من المخلوقات!
قبل مئة وثلاثة وثلاثين عاماً أطلق نيتشه النبوءة التالية في كتابه «ما وراء الخير والشر: تباشير فلسفة للمستقبل» الصادر عام 1886:
«احذروا من التقدم التكنولوجي الذي لا غاية له إلا ذاته، احذروا من حركته الجهنمية التي لا تتوقف عند حد، سوف يولد في المستقبل أفرادا طيعين، خانعين، مستعبدين، يعيشون كالآلات، احذروا من هذه الدورة الطاحنة للمال ورأس المال والإنتاج الذي يستهلك نفسه بنفسه، احذروا من عصر العدمية الذي سيجيء لا محالة».
ما لا شك فيه هو أن التطورات التقنية باتت أكثر جموحاً من الخيال فهل نحن الآن على عتبة عصر العدمية الذي حذر منه نيتشه؟

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن