قضايا وآراء

ترامب ينفخ في رماد حرب باردة

| د. قحطان السيوفي

سقط جدار برلين وانهار الاتحاد السوفييتي، ففي عام 1989 انتهت الحرب الباردة، وشعر الغرب بالفوز وكانت الصين بلداً كبيراً، فقيرأ ومتخلفاً، وبعد سقوط جدار برلين كان رأي النخبة في الغرب إما أن تصبح الصين دولة ديمقراطية، وإما أن تفشل اقتصادياً.
لكن الصين أثبتت أن النظرية خاطئة، بقيت دولة ذات حزب واحد، لكنها استمرت في الاندفاع اقتصادياً وأصبحت في عام 2014 أكبر اقتصاد في العالم قياساً بالقوة الشرائية، فازدادت ثراء بشكل مطرد، وشهدت صعود عمالقة التكنولوجيا الصينية الناجحة والمبتكرة.
زوال الاتحاد السوفييتي خلف حفرة كبيرة، بالنسبة للولايات المتحدة التي رأت أن الصين يمكن أن تكون العدو الأيديولوجي والعسكري والاقتصادي وأنها خصم جدير بالاهتمام. أصبح التنافس الشامل مع الصين مبدأ تنظيمياً للسياسات الاقتصادية والخارجية والأمنية الأميركية.
التصريحات التي أدلت بها مديرة تخطيط السياسات في وزارة الخارجية الأميركية كيرون سكينر ذات دلالات واضحة، فقد أشارت في منتدى نظمته «نيو أميركا» إلى أن التنافس مع بكين هو «معركة مع حضارة مختلفة تماماً وأيديولوجية مختلفة، والولايات المتحدة لم تكن قد خاضت مثل ذلك من قبل».
وأضافت: «هذه المرة الأولى التي سيكون لدينا فيها منافس ذو قوة عظمى ليس قوقازياً».
ما يُسمى الخوف على الديمقراطية في الغرب تأجج بعد انتخاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع ما رافقه من تغيير في المزاج الفكري، واعتراف ضمني بأن الصين حققت ما كان يبدو مستحيلا لمعظم المفكرين الغربيين في عام 1989 شن ترامب حرباً تجارية على الصين، ويعمل على فرضية «إذا تاجرنا بحرية مع الصين، فسيكون الوقت في مصلحتهم».
الرئيس ترامب لديه غريزة داخلية للقومية والحمائية، الهدف هو هيمنة الولايات المتحدة، ومحاولة السيطرة على الصين. إنها حرب باردة جديدة مع الصين، ليست كالحرب الباردة مع الاتحاد السوفييتي. الخطاب الذي ألقاه نائب الرئيس الأميركي مايك بنس، حول العلاقات الأميركية الصينية في تشرين الأول 2018، أعلن فيه عن نية أميركا مواجهة الصين الصاعدة في جميع أنحاء العالم بشأن تدخلها في السياسة الأميركية، وبشأن سياساتها التجارية والاستثمارية، والسرقة المزعومة للملكية الفكرية وخطط التنمية الصناعية والأمن، ودبلوماسية الديون، إضافة «إلى إعادة ضبط العلاقة الاقتصادية والإستراتيجية بين الولايات المتحدة والصين، وفي نهاية المطاف وضع أميركا أولاً، الذي قد يؤدي إلى الاحتكاك بين الولايات المتحدة والصين ويكون أكثر ضررا من الحرب الباردة. هذه الحرب الأخيرة استمرت على الأقل باردة نسبياً. الأضرار التي يلحقها الصراع الأميركي الصيني بإدارة الشؤون العامة العالمية والازدهار العالمي ربما تكون هائلة.
حرب باردة أم لا؟ هذا الصراع الإستراتيجي يبدو عميقاً ومستمراً.
تقول الولايات المتحدة إنها «ترغب في تحويل الصين، التي لسبب ما، تخشى من أن الولايات المتحدة تريد إيقاف صعودها».
الكتاب الأبيض حول الصراع التجاري، الذي نشرته الصين في الأسبوع الأول من حزيران 2019 دليل على ذلك، والحقيقة هي أن المواقف الصينية صحيحة.
تركيز الولايات المتحدة على الاختلالات الثنائية هو فعل أمي اقتصادياً.
الرأي القائل إن سرقة الملكية الفكرية تسببت في أضرار جسيمة للولايات المتحدة مشكوك فيها. والرأي القائل إن الصين انتهكت بشكل صارخ التزاماتها بموجب الاتفاقية التي أدت إلى انضمامها عام 2001 إلى منظمة التجارة العالمية، مبالغ فيه إلى حد كبير.
كل إجراءات السياسة التجارية التي اتخذتها إدارة ترامب تقريباً تنتهك قواعد منظمة التجارة العالمية، وتعتزم تدمير نظام تسوية النزاعات. موقف الولايات المتحدة التفاوضي تجاه الصين هو أن القوة تصنع الحق، وهي تريد من الصين أن تقبل دور الولايات المتحدة بصفتها قاضيا وهيئة محلفين.
النزاع حول شروط فتح السوق أو حماية الملكية الفكرية ربما يُحل بمفاوضات متأنية، لكن لا يزال السبب الأكبر للنزاع يدور باستمرار حول ما إذا كان الاندماج مع الاقتصاد الصيني الذي تقوده الدولة أمراً مرغوباً فيه، الخوف من شركة هواوي يركز على الأمن القومي والاستقلال التكنولوجي.
محاولة إيقاف صعود الصين الاقتصادي والتكنولوجي تكاد تؤول حتميا إلى الفشل. إن محاولة الحفاظ على هيمنة 4 في المئة من البشرية على الباقي هي محاولة غير شرعية.
جاء في «الفايننشال تايمز» حزيران 2019: «سياسات ترامب التجارية تدميرية، ولابد للولايات المتحدة أن تعترف بأن الصين لديها أصول ضخمة: حجم سكانها، واقتصادها الديناميكي، وسوق كبيرة، إلا أن حلم ترامب أن تستسلم الصين أو تختفي، مثلما اختفى الاتحاد السوفييتي، وهو أمر مناف للعقل».
المشهد يشير إلى وقائع لا يمكن تجاهلها:
– الصين تتصدى للهيمنة الأميركية، فهي تنتمي إلى الصينيين.
– تنظيم الصين السياسي من المرجح أن يظل مختلفا عن الغرب إلى أجل غير مسمى.
– الصين مستمرة في خططها التنموية الطموحة.
– الصين قوة اقتصادية عظمى وشريك حيوي وضروري للحفاظ على استقرار الاقتصاد العالمي.
تبدو الإدارة الأميركية عازمة على الدخول في حرب اقتصادية باردة مع الصين، أهم ملامحها: فرض الرسوم الجمركية والعقوبات بدلاً من اللجوء إلى استخدام الذخائر.
هناك شعور باليقين بنشوب حرب باردة جديدة.
ثمة نوع من التشابه بين بداية الحرب الباردة السابقة المنتهية بانهيار الاتحاد السوفييتي، وعالم اليوم عندما دخلت الولايات المتحدة في نزاعها الطويل مع الاتحاد السوفييتي، أواخر عام 1964، وقد قال 77 في المئة من الأميركيين إنهم يثقون في الإدارة الأميركية في آذار 2019، قال 17 في المئة من الأميركيين إنهم يثقون في واشنطن معظم الوقت أو كله.
استطلاعات الرأي في أميركا تشير إلى أن الأمة تنقسم حول الرسوم الجمركية، ومن المهم أن الولايات المتحدة أكثر تشوشا وتشككا الآن مما كانت عليه في فترة الحرب الباردة مع السوفييت. ويرى المحللون أن معظم الأميركيين غير مُقتنعين بمواجهة دولة كالصين لا تشكل تهديداً تقليدياً لوطنهم.
باختصار، العالم يشهد نزاعاً دائماً، بل حرباً اقتصادية باردة بين الولايات المتحدة والصين.
ترامب المتهور، يحكمه التعصب القومي، وليس لديه فهم يُذكر للتاريخ وللحقائق الإستراتيجية؛ يبدو وكأنه ينفخ في رماد حرب باردة يُريدها أن تُصبح ساخنة، ويشن في وقت واحد صراعا مع الصين، ويهاجم حلفاءه، ويدمر مؤسسات النظام الذي قادته الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية. هجوم اليوم على الصين هو حرب خاطئة، تم خوضها بطريقة خاطئة، على المنطقة الخاطئة كما جاء في «الفايننشال تايمز».

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن