ينبغي علينا ألا يقتصر فهمنا لموقف الولايات المتحدة الأخير تجاه طهران من منظور سياساتها الشرق أوسطية فحسب، بل على مستوى العالم أجمع، لأن ما يجري الآن ليس مجرد نزاع مع إيران، إنه بالأحرى سياسة توازن بين الشرق والغرب تجري فصوله حول هذا البلد.
إن أكثر ما يقلق الولايات المتحدة، ومنذ الحرب العالمية الثانية، هو التنافس مع الاتحاد السوفييتي سابقاً، ثم روسيا لاحقاً، مع ذلك، اقترحت موسكو، منذ مؤتمر جنيف الأول الذي انعقد في أعقاب بدء النزاع السوري، أن تكون ضامنة للسلام الإقليمي على قدم وساق إلى جانب واشنطن، إلا أن الاتفاق الذي تم توقيعه في حزيران من عام 2012، بحضور الأعضاء الدائمين الآخرين في مجلس الأمن، إضافة إلى تركيا، نيابة عن حلف شمال الأطلسي، والعراق والكويت وقطر، نيابة عن الجامعة العربية، جرى في غياب تام لجميع أطراف النزاع في الداخل السوري، لذلك لم يُعمر أكثر من أسبوع واحد، الأمر الذي دفع الأمين العام السابق للأمم المتحدة كوفي عنان للانسحاب من مسرح الأحداث، وانخراط حلف الناتو في الحرب مباشرة ضد سورية.
الأمر الثاني الذي يقلق الولايات المتحدة تجاه إيران، هو موقف البنتاغون المتشدد، الذي يُصر على منع طهران، من وجهة نظره، من استئناف البرنامج النووي الذي اقترحه هو بالذات على الشاه الإيراني رضا بهلوي في منتصف القرن الماضي، لكن، وعلى عكس تعليقات وسائل الإعلام الغربية حول هذا الموضوع، فإن إيران لم تعد تسعى للحصول على القنبلة الذرية بعد أن أصدر الإمام الخميني فتوى بإدانة أسلحة الدمار الشامل باعتبارها تتناقض مع رؤيته للإسلام، وهذا ما أثبته الكشف الفعلي عن المحفوظات السرية، التي حاول تلفيقها رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، والتي أكدت أن جميع الأبحاث المتعلقة بتصنيع مولد موجات الصدمة مجرد هراء، ثم جاء تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أعقاب عمليات التفتيش التي أجرتها ليؤكد أن إيران لا تسعى لتصنيع قنبلة نووية.
أما العامل الثالث الذي يشكل صداعا مزمنا للولايات المتحدة في الوقت الحالي، فيتمثل بإدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ذاتها المسكونة بهاجس إطلاق المزيد من فرص العمل في الداخل الأميركي، والتي تحتم عليها إعادة التوازن لتجارتها، وخاصة مع الصين، والحفاظ على أسعار النفط عند مستوى الأرباح المراد تحقيقها من النفط الصخري المقدرة بنحو سبعين دولاراً للبرميل. لهذه الأسباب مجتمعة تتشدد واشنطن في منع كل من إيران، وفنزويلا، وسورية بيع نفطهم في الأسواق الدولية حتى عام 2025، بالتزامن مع السعي لمنع وصول المشتقات النفطية الروسية إلى دول الاتحاد الأوروبي.
وفي المقابل تحاول روسيا أيضاً فرملة هبوط الأسعار، بعد أن توصلت إلى توقيع اتفاق بهذا الشأن مع منظمة أوبك، وأقدمت طواعية على تقليص إنتاجها، وهو ما يفسر سبب تأجيل المواجهة، التي لا مفر منها مع واشنطن حول هذه المسألة، لما بعد تشكيل قيادة المفوضية الأوروبية الجديدة.
في حال انصاعت «بروكسل» مرة أخرى لواشنطن، واتخذت قراراً بحظر استيراد الغاز الروسي، فستجد موسكو نفسها مضطرة لقبول تخفيض أسعار مشتقاتها النفطية لتتمكن من تسييل إنتاجها في الأسواق العالمية، ومن ثم تدمير صناعة النفط الصخري الأميركية، وهنا تكون المواجهة قد وصلت إلى ذروتها، وستنقلب الأمور رأساً على عقب، ولن يكون لإدارة ترامب حينذاك أي مصلحة في الاستمرار بمعارضة إيران وفنزويلا وسورية بتسييل مشتقاتهم النفطية في الأسواق العالمية.
ومن المحتمل أيضاً أن تقرر الصين في الوقت نفسه خفض صادراتها إلى الولايات المتحدة، والاقتصار على ترويج منتجاتها في السوق المحلية المزدهرة الآن، ما يعني أنها ستكون قادرة على التزود بمصادر الطاقة بشكل مستمر، وبأسعار أقل مما هي متداولة حالياً في الأسواق العالمية، الأمر الذي سوف يمكن بكين من مواجهة واشنطن أيضاً، وجعلها تستمر رمزياً بمواصلة وارداتها. ولتتجنب واشنطن أي رد محتمل، فسوف تضطر مكرهة لغض الطرف عن إقدام بكين على شراء كميات محدودة من النفط الإيراني.