لم يفض الرئيس الأميركي دونالد ترامب بما يدور في خلده وهو يدلي بحديثه إلى شبكة «سي إن إن » الإخبارية يوم الجمعة الماضي، ومن المؤكد أنه لم يجانب الحقيقة وهو يقول إن ما دفعه إلى إلغاء قرار كان قد وافق عليه بضرب 3 مواقع لمنصات صواريخ ورادارات إيرانية في أعقاب إسقاط طائرة «آر كيو 17» الأميركية، قبيل عشر دقائق فقط من الموعد المحدد للبدء بتنفيذ العملية فجر اليوم نفسه الذي حمله ذلك التصريح.
ترامب كان قد ذكر أنه سأل أحد جنرالاته عن الثمن البشري الذي يمكن أن تخلفه الضربات الأميركية، وعندما أجاب هذا الأخير بأنها قد تصل إلى 150 ضحية، قال في نفسه: إن هذا ثمن باهظ لا يتناسب مع إسقاط طائرة تجسس مسيرة و«غير مأهولة».
هذا التبرير الذي يحاكي نزعة إنسانية غير معهودة في الحسابات الأميركية ولا في حسابات ترامب نفسه، ومطار الشعيرات السوري الذي قصفه بعد أشهر من وصوله إلى البيت الأبيض شاهد على ذلك، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالهيبة الأميركية التي اهتزت يوم 20 حزيران من دون أدنى شك، والأهم هو أن واشنطن كانت في وقت هي أحوج فيه إلى رفع مستوى هيبتها بعد بروز انكفائية واضحة في فنزويلا، وفي ظل تفلت تركي واضح بات مقلقاً لجهة إمكان خروج أنقرة من القبضة الأميركية بالرغم من تهديدات ترامب بتدمير الاقتصاد التركي، والأمر عينه يتساوق مع العلاقة التي أرستها قمة سنغافورة الأخيرة ما بين الرئيسين الأميركي والكوري الديمقراطي، ولا يخفف من ذلك كله عودة الاتصالات ما بين واشنطن وبيونغ يانغ فالعودة هنا جاءت بتنسيق واضح مع بكين.
ما لم يقله ترامب هو أنه ليس مستعجلاً للحرب والضغوط التي تتالى مسلسلها يوم الاثنين الماضي بتوقيعه على قانون بفرض عقوبات على ثمانية مسؤولين إيرانيين وصلت حدود مكتب المرشد علي خامنئي، سوف تأتي بالمزيد من الذرائع والعديد من الفرص، ثم إن ترامب يرى في حساباته الراسمة لخرائط التوازنات الدولية المتعلقة بفعل عسكري ضد إيران من أي نوع كان، إن هذه الأخيرة لا تزال هشة أو بمعنى آخر إنها لا تصب تماماً في المصلحة الأميركية، فنتائج المعارك في حالات عديدة قد لا تكون محكومه فقط بموازين القوى العسكرية لوحدها التي تميل ولا شك إلى جانب الأميركيين، ثم إن الفعل العسكري أياً يكن ما حققه في ميادين القتال يصبح بلا جدوى إذا لم يجر استثماره سياسياً، وفي النهاية فإن الحرب هي ممارسة للسياسة بأدوات مختلفة، وعلى صانع القرار السياسي أن يحدد قبل الإعلان عن بدء إطلاق النار، الأهداف التي يجب الوصول إليها راسماً بذلك ومدركاً الحدود التي يمكن للسلاح أن يصل إليها.
حسابات ترامب في تلك اللحظات، وإلى الآن، تلحظ أن تفوق السلاح الأميركي وفق معطيات الحرب الراهنة إذا ما اندلعت لن يستطيع تحقيق المرجو منه سياسياً، بل علاوة على ذلك فإنه لا يزال يرى أن قنوات السياسة برغم تعثر العديد منها حتى الآن تظل الوسيلة الأقرب للنجاح في الوصول إلى الغايات المرجوة منها، والمؤكد اليوم أن حادثة إسقاط طائرة التجسس الأميركية يوم الخميس الماضي قد أرست توازناً مهماً لمصلحة طهران سيكون من الخطأ التفريط به تحت أي ظرف كان.
هناك أحداث تقود إلى أحداث، والصورة الإجمالية التي ترسمها الحالتان ترجح أن الحرب الأميركية الإيرانية لن تقوم لسبب بسيط هو أن واشنطن ترى أنها لم تستكمل شروطها، وما سيحدث هو البديل عنها والمقصود به المفاوضات بالرغم من كل التشدد الذي تبديه طهران تجاه هذي الأخيرة، ومرده إلى أنها ترى أن قيامها الآن سوف يؤدي إلى تسويات مع ترامب تقع تحت السقوف التي جاءت عليها التسوية مع سلفه باراك أوباما.