ثقافة وفن

السوري بين التغني والوهم

| إسماعيل مروة

يروق لي، كما لكل سوري، الحديث عن السوريين وتميزهم، وتدمع العين وأنت ترى وتسمع وتشهد الشهادات عن تميز السوريين، فهذا يتحدث عن السوريين وبعدهم الحضاري، وذاك يتحدث عن السوريين وإبداعاتهم، وثالث يتحدث عن السوريين وأعمالهم وإنجازاتهم وخاصة في زمن الحرب، وكيف أن هؤلاء يعملون ويكدون وينجزون مشروعات كبيرة أو صغيرة في الأماكن التي انتقلوا إليها..
كل هذا الحديث جميل وممتع ويدفعنا إلى البحث في تفصيلاته، ودراسته دراسة حقيقية، لأننا في المقابل نجد قنوات ومنابر تتحدث عن السوريين بسلبية في القتل أو السلب، ويعاملونهم معاملة غير لائقة وغير إنسانية! ولابد من الإشارة إلى أن السوريين شأنهم شأن أي شعب في العالم، فيهم الجيد وفيهم السيئ، ولولا الإيمان بهذه المسلّمة ما وصلت سورية إلى ما وصلت إليه، وفي البلدان التي تشيد بالسوريين هناك عدد من الذين لا يستحقون الإشادة، لكن أولئك لا يلتفتون إلى الحالة النادرة، وفي البلدان التي يسيئون فيها للإنسان السوري هناك عدد كبير من السوريين الصناعيين والتجار والعلماء والمهرة في مهنهم، بل إن جزءاً كبيراً من اقتصادهم يقوم على السوريين، لكنهم ولهشاشتهم لا يملكون الجرأة للحديث عن هذه الحالات، ويعملون على إبراز الحالات السلبية النادرة..! ما علينا، المهم أن الإشادة الدائمة مرض، وجلد الذات مرض، فالذين نجحوا من السوريين ومثلوا نماذج تحتذى هم نوعان، الأول منهما يتمثل في رجال المال والاقتصاد والفكر الذين يملكون أرضية مهمة وقوية، وهؤلاء عملوا على نقل هذه الإمكانات إلى الخارج لا غير، والنوع الثاني من الأسر العفيفة الكريمة التي أبت أن تعيش على التسول والمعونات، عملت على اختراع عدد من المهن، وبعضها منزلي من أجل متابعة الحياة.. وهذان النوعان يمثلان حالات فردية غير منظمة، وليست فكراً ممنهجاً، وهي انتقلت كما هي من البيئة السورية إلى البيئات الأخرى دون أي تغيير أو تحوير.. وبالمقابل يقف إلى جانب هذين النوعين نوعان آخران ظلا داخل سورية، الأول منهما هو الذي لم يشأ إلا أن يحيا، ولم يرد أن يغادر رغم كل الضغوط، وفي الحقيقة فإن هؤلاء يستحقون احتراماً مضاعفاً، فهذا يزرع شتول الخضار ويخدم أشجار الفاكهة، وينزل عمق الأرض للخيرات والماء، فلم تعان سورية في زمن الحرب أي ضائقة غذائية أو نباتية، وبقيت من قلب الحرب تصدر منتجاتها الغذائية والزراعية إلى دول لا تعاني أي مشكلة، وهذا النوع يستحق الاحترام والتقدير إذ لم يترك نفسه والآخر رهين الجوع والضائقة، بل كان يتنقل شأنه شأن أي عامل في معمل، أو أي طالب، أو أي موظف تحت القذائف ليتابع حياة سورية، ولو توقف هؤلاء لكان الأمر مختلفاً، هنا يجب أن نقف أمام السوري وإرادته ورغبته في الحياة، والصنف الثاني هو ذلك الذي يعيش عالة على مجتمعه من لص وانتهازي في أي موقع كان، وفي أي مستوى كان، فهو شبيه بمن يسيء إلى اسم سورية في الخارج بمشكلاته وتجاوزاته، والفرق هو أن ذلك وجد من يقوم بفضحه، أما هذا فهو في مكانه وبلده وقد يتعذر أن يتم فضح تجاوزاته.
لاشك في أن الحرب التي شنت على سورية، وما تزال تشن، هي فعل مخطط له، ولو شاء بعضهم أن يتعامى عن حقيقة التآمر على بلداننا وثرواتها، لاشك في أن هذه الحرب كشفت جوهر الإنسان السوري بشكل كامل، سواء كان الكشف إيجابياً أم سلبياً، وأظهرت للملأ أن الإنسان جوهر لا يتغير بتغير الظروف، وليس صحيحاً ما يردده المحبطون من أن الإنسان تغير، فالجوهر ثابت لا يتحول ولا يتبدل.
فاللصوص والمتسولون وبائعو أنفسهم الذين نراهم في الطرقات العربية والأوروبية، وعلى الشاشات لم ينبتوا فجأة، ولم يتحولوا هكذا بقدرة قادر، وإنما طبعهم في التسول واللصوصية وبيع النفس، ولا أريد أن أقف عند الأسماء وخاصة تلك التي تتحدث عن ممارسات «السلطة والنظام»، وقد كانوا جزءاً منه أو منها، لن أقف عند أسمائهم، لكنني أقف عند نقدهم، وهو صحيح في جزء كبير منه، لا لشيء، إلا لأنهم باعوا قناعاتهم وباعوا أنفسهم وتسولوا وسرقوا، لذلك يتحدثون عن أنفسهم، ولا يختلف الأمر معهم بين داخل وخارج، ففي الداخل باعوا أنفسهم وتسللوا وتسولوا وسرقوا، وفي الخارج يفعلون الفعل نفسه، فليست الحرب هي التي غيرتهم، وإنما هي التي كشفت جوهرهم الحقيقي.. وأمثال هؤلاء لا يزالون في الداخل، ويمارسون الفعل نفسه، وهم على استعداد بأن يبيعوا أنفسهم في أي لحظة سانحة، وربما غير سانحة، وكل هؤلاء يحاولون التغرير بالسوري الطيب، وبأنهم مستقبل سورية، وهذا وهم فظيع فسورية القادمة لن تحتفظ في صورها ورسومها بأي شكل من الأشكال التي كانت وراء ما جرى ويجري سواء كان قد كشف جوهره في الداخل أم في الخارج.
أما السوري المنتمي الذي غادر فهو الذي أعطى صورة ناصعة جعلتنا قادرين على التغني بسورية، والذي بقي تحت الضرب والنار والقذائف عمل وزرع ودفع الأثمان أرواحاً ودماً، هو الذي يحمل مستقبل سورية.. والحالات كلها تستدعي أن يتم تحويل التغني بالسوري ومنجزه وحضارته إلى منهج مؤسساتي راسخ، يقدر على فرز الفضلات أينما كانت، والاحتفاظ بالجوهر أينما وجد، وهذا يستدعي من الجهات المسؤولة إعادة النظر في المنظومات العديدة التي حلت مكان المنظومة الأكثر أهمية، وهي المواطنة، فنحن بحاجة إلى إعادة النظر في فهمنا للمؤسسة الدينية وما حدث من خلالها، وأن نعيد النظر في المثقفين ورجال الأعمال، وفي الفنانين الذين دللوا وكانوا يتباهون بقربهم ثم تحولوا، وهكذا دون إقصاء أو إلغاء، وإنما أن يأخذ كل واحد حجمه الحقيقي لا الوهمي، يصبح السوري في مكانته اللائقة، ويليق به الغناء ويصدح العالم بالصورة المشرقة.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن