لو تسنى لنا اختيارَ عنوانٍ نلخصُ فيهِ ما حدثَ من اجتماعاتٍ ولقاءاتٍ وقممٍ دوليةٍ في الأسبوع المنصرِف، لكانت كلمةَ «فشل» هي الأقدر على جمعِ كل تناقضاتِ التصريحات والتوجهات والنيّات السياسية وغير السياسية.
فشلٌ له ركائزَ تختلف حسب نوعيةِ الاجتماع أو القمة التي يمكن نلخصها بعناوينَ ثلاثة:
أولاً: الرهان على أحصنةٍ من ورق
بعدَ ساعاتٍ قليلة من انتهاءِ مهزلة العاصمة البحرينية المنامة التي استضافت ما سمي «ورشة عملٍ» من أجل صفقة القرن، خرجَ وزير خارجيتها خالد بن أحمد آل خليفة بتصريحٍ يؤكد فيه دعمَ مشيختهِ لحق الشعب الفلسطيني بدولةٍ على حدود 67 عاصمتها القدس الشرقية، مؤكداً في الوقتِ ذاته أن «ورشةَ المنامة» ليست خطوة للتطبيع مع «إسرائيل».
اللافت أن تصريحات الوزير البحريني جاءت بعدَ أن أعطى حديثاً خاصاً لعدةِ وسائل إعلامٍ إسرائيلية تفاخرَ إعلاميوها بأنهم يصولون ويجولون في البحرين، هذا التناقض الذي يلامس حدَّ السذاجة في فهمِ معنى التطبيع مع العدو لا يعطينا صورة عن الفشل الذي عانت منه هذه الورشة في فرضِ أمرٍ واقع يهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية ويجعل من الكيان الإسرائيلي مجردَ جارٍ فحسب، لكنه يعطينا أيضاً صورة عن نوعية المسؤولين العرب الذين راهنَ عليهم جاريد كوشنير للوصولِ إلى أهدافهِ، تلكَ الأهداف التي فشلت عبرَ عقودٍ من التحقق عندما تبناها «كبار القادة العرب»، فكيف لوزيرِ خارجيةِ مشيخته أن ينجح في ذلك؟
قد يقول البعض: إن الوقتَ الآن مختلف، فالعرب والفلسطينيون بأضعفِ حالاتهم لدرجةٍ تبدو معها صفقة القرن نتيجة منطقية للدمار الحاصل في المنطقة، قد نتفق جزئياً مع هذا الكلام تحديداً أن الكثير من منظري الخطاب العروبي مازالوا يستخدمون مصطلح «رفض الجماهير»، ولا ندري عن أي جماهيرٍ يتحدثون والمواطن العربي أساساً لم يعد بإمكانه التظاهر من أجل لقمةِ عيشهِ حتى يتظاهر من أجلِ إسقاط المشروعات الاستعمارية، لكن بالمطلق فإن سؤالهم لا يحتاج إلى جوابٍ، تحديداً أننا نشدد دائماً على فرضيةِ أن المنهزمين من الداخل لا يمكن لهم أبداً أن يشعروا بأي انتصار، فلو كانَ الحال كما يعتقدون لما اضطر هذا الغرب الذي يتوهم الانتصار للاعتمادِ على أحصنةٍ من ورق يرسمها بريشةِ الهوان والتبعية.
ثانياً: خارج الموافقة الرسمية السورية، فالقوات الأجنبية هي احتلال
لم يمنع تبادلَ الابتسامات وتشابكَ الأيدي فشلَ الاجتماع الأمني الذي انعقد في القدس المحتلة على مستوى مسؤولي الأمن القومي في كل من الولايات المتحدة وروسيا والكيان الصهيوني، هذا الاجتماع صحَّ فيهِ التوصيف الأغرب: أهميته تكمُن في فشله.
استسلمت الأطراف الثلاثة المشاركة بالاجتماع لتمسكها بلاءاتها، فلا الروسي تراجعَ عن ما يراه ضرورياً للمصالح الروسية والسورية من استثمارٍ في ورقة الوجود الإيراني في سورية، ولا جون بولتون استطاع أن يُقنع الروس بأن ترتيبَ العلاقة الأميركية الروسية ثمنها العلاقةَ بطهران، أما الإسرائيلي الذي مازال هناك من ينعتهُ بالمنتصر فتاهَ عملياً بين فكرتين متناقضتين.
في واقع الأمر فإن كل ما تم تسريبهُ عن الاجتماع صبَّ في مصلحةِ اللا توافق في الطروحات، فما قدمهُ الجانب الروسي هو تعهد استيعاب وإدارة للوجود الإيراني في سورية حتى يصل الجميع إلى لحظةٍ يكونون فيها مستعدين للانسحاب، أما الجانبان الأميركي والإسرائيلي فأصرا على فرضية أن الانسحاب الأميركي يلي الانسحاب الإيراني ويجب أن يتم بالتوازي مع تقدمٍ في العملية السياسية في سورية، بل الأدهى أن الجانب الأميركي طرح فكرةَ خروج القوات الأميركية من شرق الفرات لتحلّ مكانها قوات عربية تقبل بها ميليشيا «قوات سورية الديمقراطية – قسد»، وهو ما كان الوزير السعودي ثامر السبهان قد رتب جزءاً منه خلال الاجتماع الذي انعقد منتصفَ الشهر الجاري مع عددٍ من ممثلي العشائر العربية وممثلين عن الأحزاب الكردية في حقلِ العمر النفطي، أي إن الأميركي أرادَ مبادلةَ الوهمِ بالوهم.
طروحاتٌ بدت جميعها في مهبِّ الريح، فالجانب السوري كان ولا يزال يعتبر أن أي وجودٍ لقواتٍ أو فصائلَ أجنبية جاءت بطلب من الحكومةِ السورية بسبب الحرب على الإرهاب سينتهي بانتهاء أسباب وجوده، أما بقاءَ منطقةَ شرقي الفرات خارج السيطرة السورية بمعزلٍ عن نوع الحماية المقدمة لمن يديرون شؤونها هو عملياً التفاف على الأزمة وليس انهاءها وهو ما نقلهُ الروس وأدى إلى فشلِ الاجتماع، لكن انعكاسات هذا الفشل لم تبقَ ضمن إطارهِ فحسب بل انسحبت إلى ما هو أبعد.
ثالثاً: قمة أوساكا.. عندما تطغى المجاملات على الفشل الدبلوماسي
انتهت قمة العشرين كما كل القمم الموازية بين مجاملاتٍ وتصريحاتٍ دبلوماسية لا تُسمن ولا تغني من جوع، حتى اللقاء المنتظر بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب مرّ مرور الكرام، بعكسِ ما كانت عليه باقي الاجتماعات التي كانت تُعقد على هامشِ القمم الكبرى بين الرئيسين والتي كانت تحظى بضجةٍ كبيرة.
إن الاجتماع لم يأتِ بالجديد، وما تلاهُ من كلامٍ لكلا الرئيسين كان في العموميات إن كان لجهة استمرار التواصل لحل «الأزمة السورية» أو ما حُكي عن طلب ترامب من بوتين «تخفيف الحملة على إدلب» بدوا وكأنهما انعكاس لفشل الاجتماع الأمني في القدس، تحديداً أن هناك من أفرطَ بالتفاؤل وتجاهل تفصيلة مهمة جداً تتعلق بوضعية الرئيس الأميركي وبمعنى آخر:
حتى لو كان دونالد ترامب قرر التراجع في الكثير من الملفات فإن وقت التراجع يجب أن يكون مدروساً بعناية، فمن السذاجة الاعتقاد بأنه سيقدم تنازلاتٍ للروس في هذا الوقت، فالرجل دخلَ عملياً معركةَ الانتخابات وهو يريد ضمان ولاية ثانية ما زال الأقرب إليها من باقي المرشحين المحتملين.
هذه الفرضية تجلت بالأمس خلالَ حديثهِ العام الذي بدا تصالحياً لكنه لم يشهد تراجعات، باستثناء موضوع العقوبات على هواوي الصينية التي تدخل في سياق المفاوضات التجارية مع المنافس الأكبر لا أكثر، لقد وصلَ به الحد للمصالحة مع رئيس النظام التركي رجب طيب أردوغان، واللافت اتهامه للإدارات السابقة بإساءة التعاطي معه، ونسي أن إدارة الرئيس باراك أوباما باركت «الإسلام السياسي» في المنطقة بكل تجلياتهِ من بينها النظام التركي الذي كان الذراع الأولى لما يريده الديمقراطيون من الحرب الناعمة.
لهجةٌ جعلت رأسَ النظام التركي يرد بطريقةِ المنتصر، فهو مثلاً أكد عدم معارضة الولايات المتحدة لشراء تركيا بطاريات دفاع جوي «إس 400» من روسيا، وفي الوقت ذاته أكدَ أن الولايات المتحدة ماضية لتسليم تركيا طائرات «إف 35».
بكل تأكيد فإن أردوغان يعي تماماً قدراته على اختلاق الأكاذيب واللعب على الألفاظ، لكنه بهذه المرحلة بالذات بدا وكأنهُ بحاجةٍ إلى إتقانِ لعبة تبادل الطرابيش ليستطيع إكمال استثماره بالفشل وبمعنى آخر: يستطيع التركي أن يقول ما يشاء، لكن هذه الأريحية لا يمكن لها أن تكونَ ستاراً للهزائم التي تلقاها، بل إن هذه الهزائم تبدو عملياً الدافع الأساسي والمحرك الأساسي للهروب للأمام فكيف ذلك؟
مهما حاول البعض التقليلَ من الصفعةِ التي تلقاها حزب «العدالة والإرهاب الإخواني» بنجاحِ مرشح المعارضة في انتخابات الإعادة لبلدية إسطنبول فهو بالنهاية سقوط كبير لأردوغان، بمعزل إن كان الطرف المنتصر بالنهاية يمثل التطرف القومي التركي الذي لا يفرِق بالنهاية عن التطرف الإخونجي الذي يمثلهُ أردوغان، لكن إمكانية الوصول معهُ إلى أرضيةٍ مشتركة تبقى واردة وليست معدومة.
هذه الصفعة أراد النظام التركي أن ينهي مفاعيلها داخلياً بأسرع وقت، فكان الحل بإعادةِ شد العصب الشعبي حول الجيش التركي والتحرش بالجيش العربي السوري للاستثمار بالرد والرد المقابل ونقلَ المعركة إلى خارج الحدود ووضع الجميع بمن فيهم المنتشون بتحقيق الفوز أمام التزاماتهم.
هذا الأسلوب ليس بجديدٍ على الطغمة الأردوغانية الحاكمة، فقبلها استخدموا سلاح الترهيب بالعمليات الإرهابية في المناطق الكردية قبل الاستحقاقات الانتخابية لتخييرهم بينه وبين الفوضى، أما عن اللعب بالمتناقضات فقد ورطَ أردوغان أكراد تركيا بالوقوف على الحياد في الانتخابات الأخيرة بطلبٍ من الإرهابي عبد اللـه أوجلان، بذريعةِ أن الحزب الذي يمثلهُ مرشح المعارضة يريد حل القضية الكردية بالنار لا بالتصالح، فماذا ينتظرنا؟
لا تنتظروا من الاجتماعات والقمم أن تحل المشكلات أو تنقل صكَّ ملكية الأراضي أو تنهي قضيةَ شعبٍ عادلة، لكن بكل تأكيد قد ننتظر من المترنحين أن يتعاطوا من مبدأ، «من بعدي ليكن الطوفان»، فالقضية ليست بخسارة في انتخابات، بل القضية هي في الحبل الذي يضيق كلما طالت الحرب السورية، فهل يهرب من كل هذا نحو مواجهةٍ مع الجيش العربي السوري؟
ربما هو الخيار الأقرب للأفعى التي تتلقى ضربتين على الرأس.