ثقافة وفن

بين الحوار والدجل..!

| إسماعيل مروة

كثيراً ما أحضر جلسات حوارية أو ندوات حول أمر ما، وربما أشارك أحياناً بغايات علمية، ولكن الطامة الكبرى كانت تظهر عند انعقاد الحوار أو سماعه، فعدد كبير من المتحاورين لا علاقة لهم بالموضوع، والأغلبية تأتي إلى الحوار وهي تعتقد مسبقاً أنها على صواب، وأنها ستقوم بالإفحام للآخر! وكأن الغاية الأولى من الحوار هي الإفحام. وفي مرات عديدة أجد المتحاورين يتعانقون ويتبادلون القُبل قبل الحوار وبعده، ولكن مجريات الحوار تعمل على شحن المتلقي الذي لا يدري المصالح التي تربط المتحاورين وربما الشراكات!
وأغرب ما حضرته، وشاركت في عدد منه، وكتبت عنه وعن عدم جدواه مرات عديدة هو (حوار الأديان)، وابتداء من عنوان اللافتة يبدأ الاعتراض فالدين واحد، والديّان واحد، ولكن الشرائع شتى، وهذا الوهم انتقل من الشريعة الكبرى إلى المذاهب والطوائف فيما بعد، فصار كل مذهب ديناً، وصارت كل طائفة ديناً!!
وما نشهده اليوم لا يمثل صراعاً دينياً إثنياً كما تعودنا على قراءة التاريخ، بل نحن أمام صراعات مذهبية وطائفية تعمل كل يوم على تجزئة الصغير إلى أصغر وهكذا، ثم تعمل على لجان وهيئات للتقريب بين الطوائف والمذاهب، وكلها ليست ذات جدوى ونقع! بل إنها بجملتها تعمل على زيادة الفرقة وتوسيع المسافات بين الأطراف التي صنعها اليوم وهم ومصالح!
وهذه الحوارات ترعاها جهات ودول لما لها من مصالح في وجود الخلاف بدل الاختلاف، وفجأة يصبح ما لم يكن مرئياً في الواجهة، وما لم يكن موجوداً يكتمل خلقه!!
أكثر من مرة دعيت إلى هذه الحوارات، وكان سؤالي الدائم حوار ماذا؟ وتقريب بين ماذا وماذا؟ وفي كل لقاء ينتهي المتحاورون إلى جلسات ود وطعام ومقررات لا نجد طريقها إلا الى الورق! وبالمناسبة فالشكر لله أنها لا تصبح في حيز التنفيذ، لان المشكلة الحقيقية فيمن ينظم هذه اللقاءات ويخطط لها، ففي البداية لكل لقاء تمويل وغايات وأهداف ينطلق منها الذي يدعو للقاء، وهناك نتائج يفترضها قبل أن يبدأ أي لقاء، ويعمل على الوصول إليها من خلال جلسات جانبية تسبق انعقاد اللقاء! ومن أخطر الغايات التي تؤسس لها الدول الراعية لها أن الحوار يصبح دينياً ومذهبياً وطائفياً، ويتشظى حتى يتوه المتحاورون والناس في ثنايا وتشعبات تجعل الانتماء المذهبي والطائفي والديني أكثر أهمية وأعلى شأناً من أي انتماء آخر! وينسى الجميع، في غمرة مصالحهم، أن الدين والعقيدة شأن فردي بين الإنسان وربه، ولا يحتاج إلى أن يكون انتماء محل انتماءات مجتمعية أكثر أهمية وأكثر جدوى.
أهم ما في الأمر أن من يدعو ويشارك في هذه الحوارات صنفان: الأول هو الدول التي تحاول بجد وكد ترويض الفكر الديني لخدمة المصالح السياسية! ظناً منها أن الفكر الديني ورجال الدين هم الحصان الرابح في اللعبة السياسية، ويعزز هذا الوهم التأثير المباشر الذي يؤديه رجال الدين في العامة بالتأثير العاطفي، وهذا التأثير المباشر له مخاطره، لأنه يعتمد على تأمين المصالح لهذه الطبقة، وقد رأينا شرائح رجال الدين، وعلماء الدين التي انحازت وفق مصالحها فكانت معولاً مؤثراً في هدم بنية الدولة الوطنية، وليست حالة صحية أن تتم المراهنة على الفكر الديني للسيطرة على المفاصل، لأن الفكر الديني مهما كان نوعه ينتظر الفرصة المناسبة ليقوم بالهيمنة والتسلط بل والحكم، ومع ذلك ما يزال الوهم مستمراً لدى الدول، أما طبقة رجال الدين فقد توزعت بدراية وبغير دراية لحصد المكاسب من جميع الأطراف!
وهذا الصنف من رجال الدول في كل مكان يحكمهم الغرور، ولا يستطيعون رؤية الحقائق كاملة، بل أيضاً يزعمون أنهم يسيطرون على رجال الدين، والحقيقة مغايرة، فلا وجود لقوة تستطيع التحكم في الفكر الديني إن خرج من عقاله! ويستمر رجال الدول في رعاية الحوار، ما يضخّم دور المؤسسة الدينية ويجعلها قادرة على الفعل، ومنتفخة إلى حد الورم، وعندما تتحاور فإنها تفعل لمصالحها، وليست للغايات التي رآها رجال الدول.
الصنف الثاني الذي يدعو إلى الحوار يتمثل في رجال الدين العلماء من خوارنة ومطارنة من مختلف الطوائف، ومشايخ ومسؤولين من مختلف المذاهب، وهؤلاء يتربعون على عرش المؤسسات الدينية الغنية بمواردها وأوقافها وتأثيرها، وهؤلاء يأتون إلى الحوار عندما يأتون من باب الوجاهة والمظهرية والمصالح، ولم أجد واحداً منهم ومن أي جهة قال: لقد اقتنعت بشيء، ولو فعل فإنه سيخسر من ميزاته ومكانته، ومكانة رأيه.. هؤلاء وصلوا إلى مرحلة من النضج والاكتمال في معارفهم التي تنسجم مع مصالحهم، لذلك يتحول الحوار من حوار إلى محاضرات صمّاء تلقى على الآخر، والآخر يتحفظ حرصاً على صديقه ورغبة في عدم التصادم، وينفضّ الحوار دون أي نتيجة تذكر، إلا التوصية بمتابعة الحوار الإسلامي الإسلامي، أو الإسلامي المسيحي، أو المسيحي المسيحي، وهكذا دون الدخول في التفاصيل لحوارات مذهبية وطائفية تحتاج إلى أكثر من ألف عام للوصول إلى حوار بين الشرائع!
لماذا الحوار؟
ما جدوى الحوار؟
إن كان موسى وكزه أم لم يفعل
إن كان يسوع صلب أم رفع
إن كان الصلب تم وفصلت فترة زمنية بينه وبين القيامة
إن اعترف المسيحيون برسالة الإسلام أم لا
إن رأوا أن القرآن منزل أم لا..
إن كانت الإمامة أعلى من الحاكمية
إن كان الجمع بينهما ضرورة أو غير جائز
ما جدوى الحوار؟ سواء اقتنع الآخرون بما يخالفهم أم لم يقتنعوا، ما الفائدة التي نجنيها؟
بل ما قيمة أن يتحدث الشيخ عن يسوع متجنباً الحديث عن الصلب؟!
وما جدوى أن يتحدث المطران عن محمد باحترام ويردف الاسم بالصلاة والسلام عليه مجاملة للحاضرين؟
ما جدوى ذلك إن كان كل واحد منهم عندما يعود إلى أتباعه يتحدث بطريقة مختلفة يحبونها، وربما نال من ذلك الرسول وأتباعه؟
لماذا لا يستبدل ذلك؟
لماذا لا يكون في فهم الآخر وجوهره؟
أليس ذلك أجدى؟
إن كل جلسات الحوار التي سمعتها أو حضرتها ليست أكثر من ممارسات للدجل في صور غير راقية، هذا يتحدث، وذاك يثني على كلامه، ويشيد بآرائه، ويتبادل الجميع أنخاب الكلام الطيب والمنفتح، وفي الجلسات الجانبية يتغير الكلام، وكل واحد يتحدث لمن يشاركونه الآراء والميول بكلام آخر يختلف اختلافاً تاماً عما كان يحتويه المنبر من كلام معسول!!
لا مكان للحوار، وخاصة في مجتمعاتنا، وإنما المجال يجب أن يكون مفتوحاً للفهم، أي أن يفهم أحدنا الآخر، مع أن هذا من نافل القول، ولا ضرورة له، وإن كان فهمي للآخر أو العكس يحتاج إلى مؤتمر أو لقاء، فهذا أمر فيه نظر!
لنتبادل الآراء، وليعرض كل واحد منا رأيه، ويشرح ما يجهله الآخر ويستغلق عليه، فما جدوى الحوار والتقارب بين رجال دين، والقاعدة الجماهيرية بعيدة عنه؟
وما جدوى الحوار بين جليلين لا يعترف أحدهما بالآخر؟
وما جدوى الحوار بين عالمين أحدهما لا يقدر على استيعاب جوهر الآخر؟
وترتفع لافتات الدجل والحوار تدعو إلى لقاء أو مؤتمر ولا يعي الكثيرون أنها لقاءات تلغي مفهوم الانتماء والمواطنة لصالح انتماءات أخرى!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن