ثقافة وفن

رحيل منذر كم نقش صانع لغة الأحلام … أعماله مثقفة تثير أسئلة الوجود المشبعة بالإحالات الأسطورية

| سوسن صيداوي

«أحب أن أقدم الأشياء بصدق، وهذا ليس سهلاً البتّة». ليس بالقول انطلقت هذه الجملة، بل ارتبطت بالفعل الذي استمر سنين طوال، شكّلت سيرة فنية حافلة، شهدت رقياً وتفرّداً بأسلوبية ربطها النقاد بأعمال عصر النهضة. رحل الفنان التشكيلي والنحات السوري منذر كم نقش (1935 – 2019)عن عمر ناهز الـ84 عاماً، قبل أن تكتمل رحلته العلاجية في جنيف في أحد مشافيها، ليوارى جثمانه هناك، غادرنا بهدوء يشبه تماما شخصه، الذي قسا به عليه كي يصل إلى قناعته التي تتناسب مع طموحاته الفكرية، تاركا سيدته الحمراء الشعر ذات الوجه الوردي، نقية، مضيئة، حالمة في أجواء تثير أسئلة وجودية وكأنها تريد أن تخبرنا عن تكوين العالم وأسراره، من خلال رسومات تشكّلت بجانبها للطبيعة والحيوانات وغيرها من الموضوعات. في رثاء الفنان منذر كم نقش، نقف عند حديثه الأخير خلال معرضه الاستعادي الذي أقيم في أيلول2018، إضافة إلى كلمات من خبراء عايشوا تجاربه وصادقوا شخصه.

أهم الاختراعات بدأت بالحلم
في حديث لصحيفة «الوطـن» مع الفنان كم نقش أشار إلى تعلقه بالطبيعة وبعودته لها بين الحين والآخر: «أنا أهتم بالطبيعة فهي لي كل شيء حي بما في ذلك الإنسان والحيوان، وقد رمزت للطبيعة بالمرأة التي تعطي وتنجب، فالطبيعة أصل الأرض، لذا ربطت بين الطبيعة والمرأة والأرض من الناحية الكونية، وأردت أن يكون الإنسان في اللوحة حراً له حلمه القادر على تحقيقه، فأهم الاختراعات في العالم بدأت بحلم». متمسكاً بحقيقة مطلقة تقضي بأن كلاً من الحلم والخيال والعلم هي المحرك الإيجابي للوصول إلى حقائق جديدة نطور بها وسائل الحياة مادية كانت أم روحية: «علينا أن نحلم ونختار بحرية اللغة التي نعبر بها عن أحلامنا من دون معرفة ما يحلم به الآخرون، ثم نتبادل الأفكار التي من شأنها إنتاج معارف وثقافات تعكس متطلبات وحاجات مجتمعاتنا لاستمرار الحياة». متمسكاً خلال حديثه بضرورة الرقابة الذاتية من أجل تحقيق القيمة في مساهمة لغة الفن بتطوير مجتمعاتنا: «وقد أصبحت الثقافة وانتشار المعرفة سهلة بين أيدينا عن طريق اكتشاف الأبجديات، ومن ثم فن الطباعة والأدوات الحديثة منذ اكتشاف الصورة الضوئية، كل ذلك يجعلنا أمام مسؤولية كبيرة في البحث، واختيار اللغة المناسبة لكل منا حسب إمكاناته لتقديم قيم تساعد في دعم الثقافة واستمرار الحياة».
في أسلوبه
يشير النقاد إلى تميّز أعمال الفنان منذر كم نقش -الرسام التعبيري الواقعي-بخصوصية كبيرة ميّزت الراحل، سواء من خلال طبيعتها اللونية الخاصة- بألوان الباستيل- أم من خلال تركيزه على المنحنيات، واستبعاده للزوايا الحادة، حيث غلب الشكل الأُمومي- السيّدة الحمراء الشعر ذات الوجه الوردي الفاتح- على لوحاته التي عادة ما تظهر فيها المرأة، بدلالات الطبيعة أو وحدة الكون والمستمدة من عالم الأساطير أو الموروث الشعبي والفلسفات القديمة، مانحة الأعمال أسلوباً سريالياً فريداً من نوعه. ولابد هنا من الإشارة إلى أنه في مجال التصوير الفوتوغرافي عامل الصور بعقلية الرسام ذاتها.

منذر كم نقش في كتاب
أصدر الناقد د. أسعد عرابي كتاباً عن تجربة الراحل بعنوان «منذر كم نقش»، مقدما فيه قراءة لأسلوب الفنان ومفرداته اللونية، شارحا مناخاته التي تثير أسئلة الفنان الوجودية المشبعة بالإحالات الأسطورية ومعنى الخصب في فضاءات حلمية لا تخلو من فتنة، لرؤوس ضخمة، وأجساد مكشوفة تختزل رؤيته للمقدّس والروحاني من جهة، والشهواني من جهة ثانية. مشكلا في أسلوبيته المتفردة من إعادة مزج فنون عصر النهضة بالأسطورة، سواء في أعماله التصويرية أم النحتيّة، مؤكداً خصوصية مدهشة في بناء لوحته وتقشفها اللوني، مكتفياً باللون القرمزي وتدرجاته، بتحوير الجسد الأنثوي الغارق في الحلم، حسب ما يقول عنه د. أسعد عرابي: «تعوم أجساده الأنثوية بعريها الطهراني في قبة الفلك الأعلى متخلصة من آثام الاتصال الحسي، وبالقدر الذي تستطيع به أن تملك إيحاءه الخصوبي الميثولوجي، فإنك ترى معراجية تصوفية خاصة به، ولاسيما طريقة رسمه للأنامل الرهيفة».
أما منحوتاته فيقول عنها عرابي إنها تحمل صفاته الشخصيّة في الابتسام والرضى والقناعة والسلام، والتوازن الداخلي والعزلة، كما تكشف محنة الفنان الوجودية «فهي متواضعة الحجوم تلامس الأرض مباشرة، من دون قاعدة، وعند تأمّل أشكاله على تواضع قياساتها، نكتشف قيمها النصبيّة التي تجعل من قياسها التخيلي أو الفرضي أضعافاً مضاعفة من قياسها الفيزيائي، وتبدو كأنها مجسم لعمل نحتي نصبي كبير». ويتابع د. عرابي أنه لا يمكن أن ندرك خصوصية أعمال منذر كم نقش «إلا إذا بحثنا عن الروابط الجمالية بين منحوتاته الصغيرة البرونزيّة، ورحابة فيافي تصويره الملون بتهشيرات أقلام الباستيل».

أسطورة منذر متحركة أبداً
أقيم آخر معرض للفنان منذر كم نقش، في دمشق/المركز الوطني للفنون البصرية في أيلول2018، وفي هذه المناسبة كان لرئيس مجلس إدارة المركز د. غياث الأخرس، كلمة بالفنان، أشاد خلالها بثقافته وبشغفه الداخلي كنحات «مثقف نحتياً»، ونحات مهم جداً من ثلاثة نحاتين مثقفين نحتياً، هم الأهم في الوطن. كم نقش عنده لغة وحس النحت وعصبية النحات المقاوم للمادة الصلبة، متابعا: «إن الطبيعة في لوحات الفنان تحمل مسحة خاصة لا تجعل منها فقط منظراً، بل تحمل مسحة خاصة تجعلها ليس فقط منظراً بل فضاء متحرك يتنفس وهذه روح النحات.
استطاع منذر ألا يمزج حس ومعالجة النحات للعمل التصويري مع التصوير، رغم رسومه التكوينية في مرحلة التسعينيات حيث الكتلة والفراغ والبناء كانت تحمل وتحضر لبدايات المرحلة التشخيصية، هذا المزج ليس بالسهل، لكن ثقافته العالية ودقة فهمه للفنون ساعدتاه على الحوار الدائم والمنفتح بينه وبين عمله عميقا وواعيا».

الفنان حضوره غبطوي
وفي مناسبة افتتاح نفس المعرض كان أيضاً للدكتور أسعد عرابي كلمة في الفنان منذر كم نقش، نقدم لكم منها التالي «منذر هو نتاج هذا الزهد والتعفف عن صغائر الأمور والتفاصيل، والعزوف عن ضجيج العالم، وتخمة العلاقات العامة. فهو الغائب- الحاضر، الرحب والمستقيل والمنسحب حتى حدود العزلة، يتجنب كثرة الإنتاج، بل هو مقلّ في نحته ولوحاته من دون انقطاع، لأنه يسعى جهده أن يحافظ على إيقاعه الطبيعي المتوازن والمغتبط، ويتجنب أن ينساق خلف إغراء الإنتاج الخصب الذي يتعثر به البعض. فنشاطه الإبداعي لا علاقة له بصبوة أو شراهة التسويق. يعكس أسلوبه مرة ثانية طهرانيته الشخصية أو أصالة عزلته الوجودية (وليس الوجدانية)، أو بالأحرى توحّده التصوفي الذي يجعل من تمثاله محرابا قدسيا يشيع الحبور الغبطوي».
وتابع عرابي: «إن اللوحات تعوم فيها أجساد أنثوية بعريها الطهراني في قبة الفلك الأعلى، متخلّصة من آثام الاتصال الحسي، وبالقدر الذي تملك فيه إيحاءها الميثولوجي، تبدو معراجية تصوفية خاصة، طريقة رسم الأنامل الرهيفة، تذكر باستبدال الرضيع لثدي أمه بمص أصبعه، وذلك ضمن حالة ملتبسة تقع بين الطهارة والخطيئة القدسية».

«كم نقش» في سطور

• ولد الفنان منذر حسن كم نقش في دمشق عام1935.
• في بداية حياته انصرف إلى الفن السينمائي وعمل فيه قرابة خمس سنوات.
• درس الفن التشكيلي/قسم النحت في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق وتخرج فيها عام 1968.
• أول سبعينيات القرن الماضي سافر إلى فرنسا، ليعود منها بالدبلوم العالي للفن في باريس، عام 1976.
• عمل معيداً في كلية الفنون الجميلة.
• يعتبر من التشكيليين السوريين المجددين في الحركة التشكيلية السورية وصاحب أسلوب مميز في النحت والتصوير.
• مارس فن التصوير الفوتوغرافي إلى جانب أعماله النحتية والتشكيلية.
• أحد مؤسسي«جماعة العشرة» (1972) التي أتت من موقع الاختلاف في تأصيل نبرة تشكيلية مضادة، وضمّت أسماء لافتة مثل نذير نبعة وغياث الأخرس وعبد اللـه مراد وخزيمة علواني وأسعد عرابي.
• كان عضو مجلس إدارة مركز الفنون البصرية.
• قدم عدة ورشات عمل فيه للفنانين الشباب وأعماله مقتناة في عدة بلدان عربية وأوروبية.
• للراحل العديد من المنحوتات في عدة بلدان أوروبية، ولم تُنقل إلى دمشق بسبب حجمها الكبير.
• آخر معارضه كان في شهر أيلول عام2018، معرض استيعادي ضم أعمالاً تنتمي لعدة مراحل من تجربته الفنية الطويلة، بالمركز الوطني للفنون البصرية بدمشق.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن