قضايا وآراء

العقوبات الاقتصادية كأداة للهيمنة الأميركية

| فارس الجيرودي

«طوال 65 عاماً لم يتمكن سلاح جو معاد من قتل جندي أميركي واحد لأن السماوات مملوكة للولايات المتحدة الأميركية»، كان ذلك أبرز ما ورد في الخطاب الأخير الذي ألقاه الرئيس الأميركي دونالد ترامب خلال حدث نادر لم تشهده واشنطن منذ 68 عاماً، فبدلاً من ازدحام السيارات وصخب المتنقلين لتأدية أعمالهم ونشاطاتهم اليومية، استقبلت العاصمة الأميركية الخميس الماضي أرتال الجنود والآليات العسكرية التي نفذت أول عرض عسكري بمناسبة عيد الاستقلال الأميركي منذ عهد الرئيس الأميركي الأسبق هاري ترومان عام 1951.
وذلك وسط موجة من الاعتراضات أثارها خصوم الرئيس الأميركي دونالد ترامب من الجمهوريين والديمقراطيين حول تكاليف العرض، ونية ترامب المسبقة استغلاله ضمن حملته الانتخابية.
لكن وعكس ما توحي به اللهجة الاستعلائية التي اتسم بها خطاب ترامب، فإن قرار الرئيس الأميركي تحريك الجنود والدبابات من الثكنات العسكرية إلى شوارع العاصمة الأميركية بهدف دعم موقفه الانتخابي بمواجهة خصومه الداخليين، هو في الواقع دليل جديد على تراجع دور الآلة العسكرية الأميركية كأداة للهيمنة والإخضاع، فأي استقراء بسيط للتاريخ الأميركي، يثبت أن شن الحروب وممارسة التدخلات العسكرية وصولاً لإسقاط الحكومات حول العالم، ظل هو الأسلوب المفضل للرؤساء الأميركيين من أجل تقوية حظوظهم الانتخابية، وذلك في مجتمع استيطاني إحلالي تحتل القوة العسكرية المجردة مكانة مركزية في ثقافته السياسية، ومن هنا جاءت المقولة الشهيرة إن «لكل رئيس أميركي حربه»، فما الذي تغير، ودفع الرئيس الأميركي لاستبدال ضربة عسكرية ضد إيران توقعها حلفاؤه في منطقتنا، باستعراض عسكري في شوارع واشنطن؟
في الواقع لم تتردد الولايات المتحدة في استخدام قوتها العسكرية وممارسة الغزوات الاستعمارية عندما يتراءى لها أن الفرصة مناسبة، حتى قبل تحولها إلى أحد قطبي العالم إثر الحرب العالمية الثانية، وذلك عكس الانطباع الذي ساد في العالم العربي قبل اقتحام الولايات المتحدة للمشهد السياسي في منطقتنا، الذي كان يستثني أميركا من دائرة البلاد الاستعمارية، ففي كتاب صدر مؤخراً للمؤرّخ الأميركي دانيال إميرفاهر تحت عنوان: «كيفَ تخفي إمبراطوريّة: تاريخ للولايات المتحدة الكبرى»، يروي الكاتب كيف نجحت أميركا في تصوير نفسها في صورة المناصر لحق تقرير المصير على حين كانت تستعمل العنف لفرض سيطرتها على شعوب في أنحاء مختلفة، فعند اندلاع الحرب العالميّة الثانية كانت أميركا تستعمر هاواي والفيليبين وغوام وبورتوريكو وسوموا، إلا أنها كانت تحرص على عدم استخدام كلمة «مستعمرة» في الوثائق والمذكرات الرسمية على غرار ما كانت تفعل بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من الدول الاستعمارية، بل كانت تستبدلها بكلمة «أراضي».
لكن وعلى الرغم من تورط العديد من الرؤساء الأميركيين بمغامرات عسكرية فاشلة مثل الحرب الكورية وحرب فيتنام، إلا أن أيديولوجية العصا الغليظة التي ابتدعها الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت ظلت المهيمنة على الإستراتيجية الأميركية في التعامل مع الجهات المعادية المحتملة، ومبدأ روزفلت هذا مشتق من كلمته الشهيرة عام 1905: «تحدث بهدوء ولكن احرص على حمل عصا غليظة أثناء كلامك»، وهذا ما حدث عندما أحجمت الولايات المتحدة عن غزو العراق إثر تدمير معظم القوة العسكرية العراقية في عملية عاصفة الصحراء عام 1991، إذ قدرت الولايات المتحدة في ذلك الحين أنها لن تستطيع السيطرة على هذا البلد بعد إسقاط نظامه، وتحسبت لاحتمال أن يجني خصمها الإيراني ثمرة إسقاط نظام صدام حسين.
ما سبق تغير كلياً في عهد الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن، الذي كان وصوله للبيت الأبيض تعبيراً عن قرار اتخذته الدولة العميقة في الولايات المتحدة بالبدء بتطبيق ورقة «مشروع القرن الأميركي الجديد» وهي دراسة وضعها عدد من الباحثين والمنظرين الأميركيين المعروفين بـ«المحافظين الجدد» عام 1997، الذين نظّروا لإدامة السيطرة الأميركية المطلقة على العالم لقرن جديد، وذلك عبر استخدام القوة العسكرية، التي اعتبروا أنها بفضل التطور التكنولوجي وصلت إلى مرحلة تمكن الولايات المتحدة من فرض سيطرتها على مساحات واسعة من الأرض من دون الحاجة لاستخدام قوة بشرية كبيرة من الجنود، ومثلت أحداث الحادي عشر من أيلول الذريعة المناسبة لإطلاق المشاريع العسكرية الأميركية التي بدأت بغزو أفغانستان والعراق، وكان مخططاً لها التوسع نحو سورية وإيران.
هكذا بالغت الولايات المتحدة في استخدام العصا الغليظة التي نصح روزفلت بالاقتصاد في استخدامها، حتى فقد التهديد باستخدام القوة العسكرية الكثير من قيمته بعد أن وصل إلى منتهاه في تجربتي أفغانستان والعراق، اللتين كلفتا الميزانية الأميركية 7 تريليونات دولار، وأثبتتا مع ذلك إخفاق التكنولوجية العسكرية الأميركية في تعويض العامل البشري، وفشل سلاح الجو المتفوق في حسم المعارك على الأرض، وها هي الولايات المتحدة اليوم وبعد 18 عاماً على غزو أفغانستان تفاوض الطالبان على الانسحاب، ومن وراء ظهر الحكومة الأفغانية، وذلك مع التوسع المستمر في رقعة الأرض التي تسيطر عليها طالبان، وها هو الرئيس الأميركي يضطر لزيارة العراق خفية بطائرة مطفأة الأضواء، كما صرح هو نفسه، علماً بأن إنهاء التورط العسكري الأميركي في الشرق الأوسط كان في مقدمة وعود ترامب لناخبيه.
لكن ترامب لم يكن أول رئيس وعد بسحب الجيش الأميركي من الشرق الأوسط وبتقليص الإنفاق العسكري الأميركي الذي أرهق ميزانية الولايات المتحدة، بل إن سلفه باراك أوباما انتخب على أساس الانسحاب من أفغانستان والعراق، لكنه أخفق في الإيفاء بعهده، بل إن الميزانية العسكرية الأميركية استمرت بالتضخم، في عهدي أوباما وترامب ليصل مجمل الإنفاق العسكري الأميركي اليوم حدود تريليون دولار سنوياً، إذا ما أضفنا ميزانية الاستخبارات ونفقات أخرى سرية إلى نفقات وزارة الدفاع.
يعطينا إخفاق كل من ترامب وأوباما في الإيفاء بوعودهما، فكرة عن محدودية دور الرئيس في تحديد الخيارات الإستراتيجية الأميركية، فما ينطبق على الإمبراطوريات السابقة في التاريخ من ثوابت وسنن ينطبق على الولايات المتحدة، وهي سنن لا يمكن لفرد واحد تغييرها وإن كان منتخباً، لذلك نتوقع أن يستمر الإنفاق العسكري الأميركي بالتضخم، وأن يكون العامل الأهم الذي سيؤدي لأفول الولايات المتحدة على نحو ما حدث مع ما سبقها من الإمبراطوريات.
إن إخفاق الحروب الأميركية المباشرة منها كما في أفغانستان والعراق، أو غير المباشرة عبر استخدام الجماعات الإرهابية كما في سورية، أو عبر استخدام الوكيل السعودي كما في اليمن، لم يؤد إلى تقلص الطموحات الأميركية بإطالة عمر السيطرة الأحادية على العالم، ولم ينتج عنه مقاربة أكثر عقلانية للتعامل مع القوى الرافضة للدور الإمبريالي الأميركي، بل إن الهيئة الاستخباراتية العسكرية التي تتحكم بالسياسة الخارجية الأميركية، من وراء الستار، قررت تفعيل عنصر آخر من عناصر الهيمنة الأميركية، كبديل من التدخل العسكري، وهو أسلوب الحرب الاقتصادية والعقوبات والحصار.
ويبدو أن ما حدث في عهد جورج بوش الابن من استخدام مفرط للقوة العسكرية يحدث اليوم ما يشبهه في عهد ترامب، من خلال الاستخدام الواسع للحروب الاقتصادية التي لم تُستثن منها الدول العظمى كروسيا والصين، ولا حتى الدول الحليفة كتركيا، إضافة إلى تشديد الحصار والعقوبات المفروضة سابقاً بحق كل من إيران وسورية، ما سيخلق مصلحةً لهذا الطيف الواسع من الدول في إقامة نظام اقتصادي بديل من النظام الاقتصادي الحالي الذي تهيمن عليه الولايات المتحدة الأميركية وتتحكم بمفاصله، وهو ما يبدو ممكناً اليوم أكثر من أي يوم سابق مع انتقال مركز الإنتاج الصناعي العالمي من الولايات المتحدة وأوروبا شرقاً إلى الصين، ولعل مسارعة الولايات المتحدة للتراجع عن قرار معاقبة شركة «هواوي» الصينية، هي أحد بوادر وصول الحرب الاقتصادية الأميركية ضد العالم إلى حائط مسدود.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن