ثقافة وفن

منذ عام 1902… المحسنية مؤسسة قامت بدورها التربوي عبر التاريخ الطويل

| نبيل تللو

المدرسة مؤسسة تربوية تعليمية اختلفت أشكالها ونظمها مع اختلاف الفلسفات الدينية والاجتماعية، هدفها ضمان التفاعل بين الأسرة والدولة بغية توفير الظروف المناسبة لإعداد الأبناء إعداداً سليماً يضمن تمكينهم من ممارسة أوجه نشاطاتهم الاجتماعية والثقافية، في سياق الأدوار المنوطة بهم في إطار النظام العام، وبما يضمن تحقيقهم لحاجاتهم الأساسية في الوقت نفسه. وقد اشتهرت مدينة دمشق ـ على مدى تاريخها الطويل ـ بكثرة مدارسها التي كان معظمها يتَّخذ من المساجد ومجالس الخلفاء وبيوت العلماء والموسرين مقرَّاً لها، ومن هذه المدارس التي ما زالت قائمة وتؤدي وظيفتها بشكلٍ مستمر «الثانوية المحسنية» الخاصة، التي تُعَدُّ حديثةً نسبياً مقارنةً بغيرها الموغلة في القِدَم، والتي يدور الحديث عنها في هذه المقالة، آملاً أن يتذكر كرام القارئات والقراء ما نسوه، وأن يتعرفوا إلى ما لا يعرفونه.
تأسَّست الثانوية المحسنية عام 1319 هـ، 1902 م، الكائنة في دمشق القديمة، جنوبي حي القيمرية، سوق مدحت باشا بعد سوق البزورية، على يد سماحة العلامة المجتهد السيد محسن الأمين العاملي (1284 ـ 1371 هـ، 1867 ـ 1952 م)، من علماء المسلمين، وهو لبناني الأصل من شقراء إحدى قرى جبل عامل، جنوب لبنان حالياً، انتقل عام 1308 هـ، 1891 م إلى النجف الأشرف في العراق حيث تلقى العلم الشرعي لمدة تزيد على عشر سنوات، وانتقل إلى دمشق بناءً على طلب بعض أهلها عام 1319 هـ، 1901 م، وسكن في أحد أحيائها « دخلة الشرفاء» الذي صار اسمه فيما بعد تشريفاً له «حي الأمين» الواقع قرب الثانوية المحسنية، حيث قام بالإصلاحات المجتمعية من خلال كتاباته المتنوعة وأعماله الخيرية، واشتغل بالتدريس والإمامة والتأليف، وانتخب عضواً بالمجمع العلمي العربي في دمشق. زار الحجاز ومصر وإيران، توفي في بيروت حيث كان يستطب في أحد مشافيها، ونُقِل جثمانه إلى دمشق، وصلِّي عليه في الجامع الأموي، ودفن في مقام السيدة زينب بنت الإمام علي بن أبي طالب عليهما السلام جنوبي دمشق، وكان يوم وفاته مشهوداً له وحافلاً بالتعازي في جميع البلاد الإسلامية.
للسيد محسن الأمين أكثر من مئة وعشرين كتاباً في علومٍ متعددة، أهمها موسوعته المسماة: «أعيان الشيعة» التي ترجم فيها للشيعة الإمامية الاثني عشرية، والتي جاءت في عشرة أجزاء.
ما إن استقرَّ في دمشق حتى بدأ بدراسة أوضاع المجتمع محاولاً إصلاح ما وجده من عللٍ وخلل، وباشر بوضع الحلول، وسعى لإحداث المؤسسات التي رأى فيها الحلَّ الناجع لإصلاح المجتمع، وقد استطاع بتوفيق الله أن ينشئ مدرسة عام 1320 هـ، 1902 م لتعليم الناشئة الذكور وأخرى للإناث خلال السنة الأولى لقدومه إلى دمشق.
يقول السيد محسن الأمين في سيرته: «واتجهنا لإنشاء مدرسة لتعليم الناشئة، فأخذنا داراً عارية من دون أجرة ونقلنا إليها (الكتَّاب) الموجود في المحلة، وجعلناها مدرسة باسم المدرسة العلوية، وابتدأنا بإدخال العلوم الحديثة إليها بشكلٍ ضعيف كما هو الشأن في ابتداء كلّ عمل، وكذلك استأجرنا داراً لتعليم البنات إلى جانب تعليم البنين».
بعد البدء بالدراسة في المدرسة الأولى التي كانت تدرس أربعة صفوف فقط، بدأ التفكير بشراء دارٍ ثانية، وجرى ذلك عام 1935 م، وهي المدرسة المحسنية الحالية المجاورة لمكتب عنبر في حي الأمين. ولأنَّ المدرسة كانت تقوم بتعليم الأيتام والفقراء، فقد أُسِّست جمعية خيرية لتأمين نفقاتهم.
يقول السيد: «ثم وفق الله لشراء دارٍ ثانية هي أحسن من الأولى بمراحل ومن أفخم دور دمشق، شُرِيت بقيمة ألف وخمسمئة ليرة عثمانية ذهباً وهي تساوي أضعاف ذلك، بذل ثمنها كلّ من المحسنين الكرام السيد علي والسيد كامل نظام والحاج رضا النحاس والحاج مهدي اللحام والحاج حسن الحلباوي جزاهم الله خير الجزاء، ونقل إليها التلاميذ، والدار الأولى تستغل ويصرف ريعها على المدرسة، وقد أصبحت المدرسة اليوم حين تحرير هذه الكلمات وهو السابع من شهر شوال سنة 1370 هـ (1951م) على أتم نظام وأحسن انتظام، ذات صفوفٍ ثانوية وقسم داخلي تفوق جميع مدارس دمشق التي من نوعها بحسن تنظيمها والمحافظة فيها على التحلي بالأخلاق الإسلامية الفاضلة ونجاح طلابها في الامتحانات مئة بالمئة وأصبح الطلاب يتهافتون عليها من جميع الأحياء لما يرى أولياؤهم من تهذيب أخلاق أولادهم ونجاحهم حتى يضطرنا الحال أحياناً إلى رد طلبهم لضيق المكان فيلحّون علينا ويصرون».
بعد الانتقال إلى المقر الجديد الحالي، تم انتخاب هيئة إدارية جديدة، وكان أول قرار اتخذته هذه الهيئة هو تغيير اسم «المدرسة العلوية الإسلامية» باسم «المدرسة المحسنية»، اعترافاً بفضل المؤسس وجهوده وتيمناً باسمه الكريم.
بقيت المدرسة المحسنية على مدى ثلاثين عاماً تفتتح الصفوف من الأول حتى الرابع فقط، إلى أن افتتح الصف الخامس في العام الدراسي 1933 – 1934، في العام الدراسي 1945 ـ 1946 أُضيف الصف السادس، ثم استكملت صفوفها السابع والثامن والتاسع سنةً فسنة حتى العام 1948 ـ 1949. بقيت المدرسة ثلاث سنوات من دون أن تفتح الصف العاشر، فكان على الطلاب المتخرجين في الشهادة الإعدادية (التاسع) المتابعة في مدارس أخرى، أو التوقف عن الدراسة والتوجه في مسارٍ آخر. في العام الدراسي 1952 ـ 1953 تمَّ افتتاح الصف العاشر، وتوالى في السنوات التالية افتتاح الصفين الحادي عشر والثاني عشر، ليحصل أول طالبٍ على البكالوريا عام 1955 م.
إنشاء المدرسة اليوسفية للبنات:
يقول السيد في سيرته أيضاً: «ولما كانت مدرسة البنات قد ضاقت بالطالبات، فتبرع المرحوم الحاج يوسف بيضون بشراء دار دفع ثمنها ثلاثة آلاف وثمانمئة ليرة عثمانية ذهباً، واعترافاً بفضله، أطلقنا اسمه على المدرسة وسميناها «المدرسة اليوسفية»، وتقع تجاه الثانوية المحسنية، وكان ذلك عام 1342 هـ، 1924 م.
تضمُّ الثانوية المحسنية اليوم:
– أقسام الابتدائي والإعدادي والثانوي والداخلي.
– قاعة استقبالٍ رئيسية جرى ترميمها حديثاً لما تمثِّله من أهمية أثرية وتاريخية لمدينة دمشق، بالتعاون مع دائرة آثار دمشق القديمة والمديرية العامة للآثار والمتاحف.
– مكتبة مدرسية تحتوي مجموعة من المراجع المرتبة ترتيباً يسهل الرجوع إليها.
درس في المحسنية عددٌ من مشاهير دمشق، منهم الفنان دريد لحام، الذي تخرَّج في مدرستها الابتدائية الصف الخامس عام 1948، والذي عَمِلَ أستاذاً فيها خلال عامي 1952 ـ 1953، ومحافظ دمشق المهندس عادل العلبي، الذي درس فيها من الصف الخامس الابتدائي وحتى نيله الشهادة الثانوية العلمية عام 1984.
تلك هي نظرة سريعة على مسيرة الثانوية المحسنية، التي حملت على جبهتها ـ وما زالت ـ عنوان التربية على أسس الأخلاق الحميدة.
أشير إلى أنَّ المعلومات الواردة في هذه المقالة أُخِذت من بعض ما ذكره لي أخوة عاملون في الثانوية المحسنية، ومن مشاهداتي المباشرة، ومن كتابٍ يحمل عنوان المقالة نفسه: «حكاية المحسنية»، الذي صدر جزؤه الأول عام 2016، ومن المتوقع صدور الجزء الثاني قريباً.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن