ثقافة وفن

جون كيتس.. الشاعر المضطهد على شاهدة قبره: «هنا يرقد شخصٌ كتب اسمه على الماء»

| أحمد محمد السح

يعتبر الشاعر الإنكليزي جون كيتس نموذجاً للشعراء الذين احتفل بهم بعد موتهم، وما أكثرهم، ففي إنكلترا كان من الممكن للشاعر أن يكون محبوباً وناجحاً لأن دور النشر والنقاد والتنمية الفكرية كانت في أوجها، وكان يمكن للنقاد أن يرفعوا شأن شاعر أو يحطوا من شأنه، فالحركة الثقافية كانت نشطة رغم أنها قد تكون أخطأت وظلمت شعراء كباراً تحدوا مقاييسها؛ ومنهم الشاعر الشاب جون كيتس. هذا الشاب الفقير الذي كتب رومانسيته وراح يرسلها إلى دور النشر والصحف لتلقى الاحتقار واللامبالاة من نقاد تلك المرحلة، وكاد هذا أن يودي بتجربته الشعرية ويدفعه إلى اليأس لكنه في آخر فترة حياته القصيرة جداً والحزينة جداً لقي اهتماماً ونالت كتبه النشر قبل أربعة سنواتٍ فقط من رحيله؛ بيد أن الاهتمام الأكبر حصل عليه بعد رحيله ليكون مؤسساً ورمزاً للمدرسة الرومانسية في الشعر.
توفي والد جون كيتس وهو في الثامنة من عمره وتزوجت والدته بعد وفاة أبيه بشهرين، وعادت بعدها إليهم مريضةً ومظلومةً من زوجها الثاني لتلقى حتفها بينهم، لم يتمكن جون كيتس بسبب هذه الظروف العائلية من إكمال تعليمه، وانعكست الظروف العائلية على شخصيته فيقول معاصروه إنه كان شخصاً هزيلاً خجولاً يقترب صوته إلى الهمس، وعلى من يريد الاستماع إلى ما يقوله أن يلصق أذنه بفم جون كيتس التي تنداح من فمه الكلمات الضعيفة، المفعمة بالأحاسيس، وكانت ثقته بالوسط المحيط ضعيفةً، يحاول الابتعاد عن الناس قدر المستطاع، ولكنه حين عرف الحب ذهب بكل أحاسيسه معه، وكتب شعره من رؤيته في الحب ومن عصارة ألمه وهو الذي لا يستطيع أن يعيش مع من أحبهن، وخاصة حبيبته «فاني» التي كتب لها أجمل قصائده. توفي جون كيتس بسبب مرض السل وعدم القدرة المادية على علاجه في عمر الخامسة والعشرين، عام 1821، طالباً ألا يكتب على قبره اسمه ولا تاريخ موته أو ولادته، موصياً أن تنقش هذه العبارة فقط: «هنا يرقد شخصٌ كتب اسمه على الماء» ولكنه بعد دفنه ووفاته كتب بعض أصدقائه اسمه وتاريخ وفاته وقد اختلف حولها بيومٍ أو يومين.
تعتبر الأناشيد القصيرة التي كتبها كيتس اليوم من أكثر القصائد اهتماماً وانتشاراً بين أبناء لغته وبلده، لأنها سهلة وغنائية ومفعمة بالعواطف، فهي لا تزال تغنى من عدد من المغنين إلى اليوم ومنها قصيدته: (لماذا ضحكت الليلة)
«لماذا ضحكت الليلة؟ لا صوت يجيب
ما من إلهٍ، أو شيطان يتصدى للجواب
لذا سأستدير من فوري نحو قلبي البشري
يا قلبي، أنا وأنت هنا. وحيدان حزينان
قل لي: لماذا ضحكت؟
الشعر والمجدُ والجمالُ صناديدُ دون شكّ
بيد أن الموتَ أقوى
الموتُ أسمى جائزةٍ للحياة»
تمثل هذه الأنشودة شكلاً من أشكال النص الحزين المتسائل الحائر لدى جون كيتس، الذي فتح الدرب أمام المدرسة الرومانسية بتساؤلاتها وأحزانها، هذه المدرسة التي نشأت في فرنسا في أواخر القرن الثامن عشر، وسرعان ما راجت في بلدان أوروبا كرد فعلٍ على الثورة الصناعية، واعتبرت ثورة على الأرستوقراطية والعادات الاجتماعية والسياسية المنتشرة حينها، وقد كانت بذور هذه المدرسة بنماذجها الفنية مرتبطة بالليبرالية، فهي التي تؤكد شتى المشاعر الإنسانية مثل الهلع والرعب والألم، وتنزع باتجاه الفردية والذاتية لتتضمن عواطف الحزن والكآبة والأمل.
تعتبر قصائد جون كيتس إلى حبيبته «فاني» هي الأكثر اهتماماً من النقاد والقراء، لفيض العواطف والنهاية التراجيدية التي تظهرها النصوص ومن أشهرها قصيدته «النجم المشع، إلى عندليب، إلى الخريف، الجرة الإغريقية، نشيد للشعراء.. إلخ» وغيرها من القصائد التي تعكس عاطفته تجاه حبيبته وعدم قدرته على الوصال معها وإحساسه باقتراب نهايته قبل أن يتم الوصال وهو ما حدث، ومن قصيدته «إلى عندليب»:
«أيها الطير الخالد لم تولد للموت
ولم تطأ الأجيال الجائعة غناءك بالأقدام
والصوت الذي أصغي إليه في الليلة العابرة كان مسموعاً
في الأيام الغابرة من الأمير والفلاح:
ربما هي النغمة نفسها
الشبابيك الساحرة نفسها تنفتح على زبد
البحار الهادرة في جزر مهجورة»
أنتج عام 2009 فيلم بعنوان (Bright star) يتحدث عن حياة الشاعر جون كيتس، واستقي العنوان من مطلع قصيدته «النجم الساطع» التي وجهها إلى حبيبته فاني، وقد أخرج الفيلم وكتب السيناريو الخاص به، المخرج جين كامبيون، وقام بالبطولة الممثل الإنكليزي «بين ويشا» بشخصية جون كيتس، والممثلة الأسترالية «آبي ورنيش» بدور حبيبته فاني، وقد نال الفيلم عدداً من الجوائز والترشيحات منها جائزة الأوسكار لأفضل تصميم ملابس، وجائزة بريطانيا للأفلام المستقلة – أفضل دور مساعد «آبي كورنيش» وجائزة سيزار الفرنسية لأفضل فيلم أجنبي عام 2011، وتبقى شخصية جون كيتس ورومانسيته وقصة حبه الحزينة تراجيديا تستحق الاحتفاء بها بأكثر نوعٍ من الفن، وهي تتفوق على تراجيديا روميو وجولييت، أضف إلى أن بعض النقاد يضعون شعره في الصف الأول مع شعر شكسبير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن