من دفتر الوطن

التأرجح في الزمن

| حسن م. يوسف

أعترف لكم أنه لم يسبق لي أن شاهدت عرضاً مسرحياً جعلني أتأرجح في الزمن، كما حدث لي خلال عرض «ثلاث حكايات» للكاتب الأرجنتيني أوزوالدو دراكون، الذي تقدمه فرقة المسرح القومي على خشبة مسرح الحمراء، بإخراج الفنان القدير أيمن زيدان، فقد عشت طوال العرض وأنا أتأرجح كبندول بين رؤيا أيمن زيدان لنص «ثلاث حكايات»، ورؤيا أستاذه في المعهد العالي للفنون المسرحية المخرج، الحاضر أبداً، فواز الساجر الذي قدم النص نفسه على خشبة مسرح اتحاد نقابات العمال عام 1980.
ونظراً لمرور تسعة وثلاثين عاماً بين عرض الساجر وعرض زيدان، فقد كانت عملية التأرجح بين الرؤيتين مربكة لي إلى حد كبير، ما ولَّد لدي شعوراً من عدم اليقين تجاه العرضين كما لو أنني لم أرَ أياً منهما!
الشيء الأكيد هو أنني خرجت ممتلئاً بعطر أداء الممثلين خوشناف ظاظا وحازم زيدان وقصي قدسية ولمى بدور ومازن عباس، الذين أظهروا مرونة هائلة في الانتقال بين الشخصيات ونجحوا في ملء فضاء مسرح الحمراء بمساعدة رهيفة من فنانة الماكياج خولة ونوس.
ينتمي نص «ثلاث حكايات» لمسرح الشارع وهو يتكون في الأساس من ثلاث حكايات منفصلة هي «ضربة شمس» و«حكاية صديقنا بانشو» و«الرجل الذي صار كلباً». أبرز ما أتذكره من عرض فواز الساجر، هو أنني امتدحت معلميته يومها، لأنه تمكن من خلال الشغل على الممثل والإضاءة، بشكل أساسي، أن يقدم مسرح الشارع داخل العلبة الإيطالية من دون أن يخسر العرض تلقائيته وقدرته على الإقناع! وهذا تحد ليس بالأمر السهل.
وقد تصدى المخرج أيمن زيدان في إعداده للنص، بالاشتراك مع محمود الجعفوري، لتبرير تقديم مسرح الشارع داخل العلبة الإيطالية، فأرجع ذلك لظروف الحرب الفاشية التي تشن على سورية، وقد مرر الفكرة برشاقة عبر بضع جمل مبطنة قالها الممثلون للمشاهدين بشكل مباشر، كما عزز الفكرة بتفجيرين هائلين هزّا مسرح الحمراء.
في عرض فواز الساجر كانت الحدود بين الحكايات الثلاث واضحة تماماً من خلال الإعلان عن بداية الحكاية وانتهائها، إلا أن خيار أيمن زيدان في عرضه، كان مختلفاً، إذ لم يضع حدوداً فاصلة بين الحكايات، وربما كان هدفه من ذلك هو تعزيز وحدة العرض، والحقيقة أن الحكايات الثلاث متداخلة من حيث السبب والموضوع، كما أنها متداخلة من حيث المقولة أيضاً، فالفقر والفساد يحولان الإنسان إلى كلب!
عندما تحول الرجل إلى كلب في الحكاية الثالثة من عرض أيمن زيدان، ونفرت زوجته منه لأنه عضها وفي نيته أن يقبلها، خيل إلي أنني أرى الراحل الكبير فواز الساجر يجلس إلى يميني وهو يبتسم! والحق أن أيمن زيدان هو أكثر طلاب فواز الساجر إخلاصاً له وللمسرح.
وقد سبق لأيمن زيدان أن قال عن فواز الساجر لمناسبة مرور واحد وعشرين عاماً على رحيله: «فواز لم يمت ولم ينته، بدأ العمل معنا بحماس واندفع حين كنا (26) طالبـاً، كان همه الأساسي أن تنصهر الذات على بوتقة الجماعة، وأن تتحول الأنا إلى النحن في هـذا الزمن المسرحي الصعب، علمنا كيف نقرأ الحياة قراءة إبداعية». وقد كتب لي رسالة يوم سافر إلى موسكو قال فيها «طوبى لمن ربح نفسه وخسر العالم».
صحيح أن أيمن زيدان لم يخسر العالم، لكن طوبى، له، لأنه ربح نفسه!

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن