قضايا وآراء

تركيا والمنطقة الآمنة

| مازن بلال

نستطيع فهم عودة المنطقة الآمنة إلى التفكير التركي من زاوية واحدة فقط مرتبطة بإعادة رسم شرقي المتوسط، فبعد أزمة صواريخ «إس 400» الروسية بين أنقرة وواشنطن فإن الطرفين استخدما هذا الأمر لصياغة الخلافات بينهما، وظهرت من جديد مسألة الشمال السوري كأولوية بينهما لإعادة تشكيل العلاقات، وربما تكوين اتجاهات إستراتيجية على مستوى المنطقة عموماً.
عملياً فإن أزمة صفقة الصواريخ الروسية لتركيا تضعنا أمام مستوى مختلف للصراع في سورية، فالمسألة لم تعد لواشنطن أو تركيا إحداث تغيير سياسي عميق، أو تبديل المعادلة لإقحام الإسلام السياسي في سورية، بل تحولت المسألة بفعل عاملين أساسيين:
– الأول عدم قدرة أي من الأطراف في إحداث تبديل عسكري ملحوظ، مثل الذي حدث في 2014 بعد سقوط كامل محافظة إدلب بيد المسلحين، أو حتى بعد التدخل الروسي وتحجيم الوجود الإرهابي ضمن جغرافية محدودة.
الاختراقات العسكرية الكبرى تبدو صعبة ضمن التوازن القائم حالياً، وليس هناك مصلحة واضحة للأطراف الكبرى، أي لروسيا والولايات المتحدة، في التصادم ولو عبر الأطراف المحلية، فروسيا تسعى لتحريك المسار السياسي لتجنب أي تصعيد محتمل، والولايات المتحدة تمارس الحصار الاقتصادي لإضعاف قدرة سورية على التحرك العسكري الفعال.
– الثاني امتلاك الطرف التركي لأوراق يمكن استخدامها في آليات الصراع وأهمها وجود كتلة سورية كبيرة على أراضيه، سواء كانت من اللاجئين أم من رؤوس الأموال التي هربت إلى تركيا مع اندلاع الأزمة.
استخدمت أنقرة الكتلة البشرية الموجودة على أراضيها في عملية سد الفراغ بعد هزيمة داعش في الشمال الغربي لسورية، وهي تريد إعادة توظيفها في المناطق الآمنة التي تقترحها، وفي الوقت نفسه فهي فتحت أراضيها منذ بداية الأزمة لاستقطاب «النشاط السياسي الموازي» لأي فعل سياسي، فكونت جملة أجهزة ظهرت داخل «الائتلاف السوري» وضمن الفصائل الإرهابية العاملة في مناطق إدلب.
يشكل العاملان السابقان أساساً لعملية «الاستثمار» التركية في الأزمة السورية، وتستخدمهما اليوم في صياغة علاقات مع الولايات المتحدة ستؤدي وفق السياق الحالي لظهور جبهة ما بين مناطق «قسد» و«المنطقة الآمنة» المقترحة، وهي منطقة توتر جديدة تضع سورية أمام واقع يشبه ما حدث في العراق خلال مراحل تاريخية متفرقة مع الحضور الكردي في الشمال، وسيعيد هذا الأمر تشكيل العلاقات الإقليمية بشكل كامل، كما أنه سيخلق عبر الزمن حلفاء محليين لكل طرف إقليمي أو دولي متورط في النزاع السوري.
ما يحدث هو رسم إستراتيجي متعدد الأطراف، وهو بعمقه يتناول محاولة لجعل سورية جغرافية «تمتص» الأزمات، واستبدالها كعقدة مواصلات وطاقة وغيرها من الأمور بطرق بديلة مكلفة، سواء عبر «إسرائيل» أم غيرها، ولكن بالنسبة للدول الإقليمية فإن هذا الخيار هو الوحيد لحذف سورية من المعادلة الإقليمية، والتخلص من «الصداع» السوري الذي استمر منذ استقلال سورية وحتى اليوم، فالمنطقة الآمنة هي خطوة لإنهاء الجغرافية السورية كبوابة لكل دول الإقليم، والرهان على بدائل مختلفة تبدو مستحيلة لكنها يمكن أن تظهر بحكم الزمن أو العلم أو غيرهما من الوسائل.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن