ثقافة وفن

أيمن زيدان يضع الشارع على خشبة الحمراء … «المتفرج بطل مسرحية 3 حكايا» نرى الظالم بعين الاستهزاء لا بعين الخوف

| نهلة كامل

يستدعي فنان الشعب أيمن زيدان الشارع إلى مسرح الحمراء، مسرحيته الجديدة «3 حكايا» قابلة للعرض في تماس مع الناس، ومنهم ولهم يستوحي عرضه، وبينهم يعيش صالحاً للتجدد على يوم مع جمهور متغير.

زيدان ودراكون
يختار زيدان مع شريكه في الإعداد الكاتب محمد الجعفوري نص رجل المسرح الأرجنتيني أزوالد دراكون «قصص تروى» هذا النص الشهير في تاريخ المسرح العالمي، حيث أصبحت مسرحية «الرجل الذي صار كلباً» نموذجاً ورمزاً رائداً، مستلهماً أفكار الصراع الطبقي والصعود الاشتراكي ومهاجماً التوحش الرأسمالي الذي يسحق الإنسان ويمتص دماء العامل، وما تبع ذلك من إبداع وخلق جذري في تقنيات المسرح وأسلوبه لكسر جمود المنصة التقليدية والانقلاب على أهدافها وأبعادها، لكي تتناسب مع حلم تغيير العالم، لقد جدد دراكون في مسرحه إنسانية النص لتقديم عرض شعبي نابع من أفكار اتجاهه السياسي، الذي رأى التغيير ممكنا، فكتب للعلاقة بين المتفرج والفنان هدفاً جديداً كانت تحاصره كلاسيكية النظرة الرأسمالية للحياة.
ويؤدي هذا التقاطع الواضح بين رجل المسرح الأرجنتيني دراكون وبين زيدان، إلى إعطاء العرض المسرحي أبعاد حلم مسرحي سياسي وإنساني، لهذا فإن زيدان الذي لا يستطيع الذهاب الآن إلى الشارع، بسبب ظروفنا التي لم تكن آمنة طوال سنوات الحرب يجلبه إلى خشبة سينما الحمراء، هذا الخيار الذي يلتقي فكراً وأسلوباً مع دراكون في الانحياز والانتماء إلى الطبقة الشعبية ومعاناتها للحصول على لقمة العيش، بل إن الابتسامة التي تغلف حكايا الموت والحياة تحدد سبل البقاء مهما كانت المعاناة مريرة، كما أن تصوير أقصى حالات التغول الرأسمالي ورفض العذاب الإنساني النابع منها، أعطت مسرحه شكل العبث المنبثق من الإدهاش الثائر على قيود واقع مؤلم، لهذا كانت شروط التقاطع بين دراكون وأزوالد ضرورة فكرية وسياسية وفنية معاً.

زيدان على المسرح القومي
تساهم العروض التي قدمها أيمن زيدان حتى الآن، في تجريبية مسرحية جديدة، تفرضها الظروف السورية الحالية في سنوات الحرب، وتتفق مع أهداف المسرح القومي المطالب بالبحث عن علاقة متينة مع المتفرج، وكيفية طرح مفاهيم مجتمعه الحالي على أن تتمتع بقدر عال من الثقافة الإنسانية والفنية.
ويخوض زيدان –في سنوات الحرب- ببسالة ومعرفية وقصدية عملية تجديد هوية المسرح الوطني في ظروفنا الحالية، وقد اختار حتى الآن أكثر التجارب العالمية عمقاً وشراسة في محاربة الظلم والفساد الإنساني، وأبدع في أسلوبها الجريء والواضح مفجراً طاقة الكشف المسرحي، وجعل الفرجة حفلة تصارح عالية النبرة متوالية المعاناة والألم الذي يجمع السخرية إلى التراجيديا، تحت عنوان المسرح السياسي، وقد ساهمت وزارة الثقافة ومديرية المسارح بجعل هذا اللقاء شبه مجاني مفتوح على احتمالات المشاركة والوجدانية والجسدية، وكأنها تلغي الستارة كاملة بين المتفرج والعرض المسرحي، وهكذا تبدو مديرية المسارح خارج اللعبة المسرحية وليست الوصية عليها، وها هي العروض تحاول إيجاد نماذج لما يجب أن تتطور إليه الحركة المسرحية المشتتة الآن.

مسرح الشارع
ولن أدعي أن أيمن زيدان يقدم النموذج الناجح الوحيد لاجتذاب المتفرج، بل إن تموضعه داخل التجربة الوطنية والحالة الاستثنائية التي يعيشها وطننا جعلت زيدان في حالة يقظة دائمة وهاجس تقديم فن جريء يتمتع بالمسؤولية، ومن هذا المنطلق جاءت مسرحية «3 حكايا» لتواصل السير في اتجاه ناضج الأسلوب مؤهلاً لأن يكون فرجة شعبية فيها من الوضوح بقدر ما لها من الإدهاش.
وتتكامل مسرحية «3 حكايا» مع أعمال زيدان الأخيرة: سوبر ماركت، اختطاف، فايريكا، وتتلاقى مع كبار رجال المسرح السياسي العالمي أمثال: داريوفر، برانيسلاف، نوشيتش، أوزالد دراكون، وهو يختار حكايا يمكن أن تحدث في سورية كما في غيرها من بلدان العالم.
وتختار مسرحية «3 حكايا» أكثر الأفكار وجوداً في معاناة الطبقة الشعبية الفقيرة وهي: الطبابة، الارتهان لاستعباد سيد العمل، والذل من أجل لقمة العيش، ففي الحكاية الأولى يموت البائع الجوال ولا يستطيع الحصول على أجر الطبابة، وفي الثانية يرتهن العامل الفقير لإرادة رب العمل الفاسد إلى درجة تكليفه بيع معلبات تحوي لحم جرذان تسبب داء السرطان، وفي الحكاية الثالثة يضطر الرجل لأن يعمل كلب حراسة يعيش داخل قفص وهو يمشي على أربع، ليفقد إنسانيته ولا يستطيع العودة إلى الوقوف.
ولعل عرض «3 حكايا» على خشبة مسرح الحمراء كان الأكثر تجسيداً لحلم المبدع أيمن زيدان في تحقيق تماس كامل مع المتفرج، وإن بقيت الخشبة والصالة منفصلتين مادياً، إلا أن العلاقة المتبادلة مع المتفرج كان افتراضاً ممكناً من خلال اعتماد أيمن زيدان على تقنية «مسرح الشارع».
وتمثل «3 حكايا» بجدارة مسرح الشارع أسلوباً وتقنية حيث يستطيع العرض الانتقال في أي وقت بأدواته القليلة ليقدم عرضه الجوال بين الناس أينما كانوا.
ويبدو مسرح الشارع في «3 حكايا» بسيطاً وسهلاً بلا سينوغرافيا ثابتة ومعقدة أو مشهدية متبدلة، لكنه في الواقع الأكثر صعوبة في افتراض الحياة العامة ساعة عرض، واعتبار المتفرج سيد اللعبة، لهذا فإن مسرحية «3 حكايا» تبدأ بحضور عربة الممثلين إلى الخشبة على أنها الشارع، هذه السيارة المتنقلة التي تستطيع أن تحط وتتوقف في أي مكان من المدينة والريف، حاملة معها إكسسوارها البسيط من الدمى والأقنعة وقطع الديكور القليلة البسيطة القابلة للحمل، لكن الأهم هو جعبة الحكايا والمواقف الموجودة في ضمير الجوقة المسرحية.

نحن ممثلون
وأكرر أن «3 حكايا» تمثل حلم المبدع أيمن زيدان بتحقيق مسرح الشارع المستحيل الآن، لكنه يدير عرضه بحرفية الساعي لذلك مرجئاً تنفيذه إلى ظروف لاحقة مناسبة.
وتحت عنوان «نحن ممثلون» يبدع أيمن زيدان في تجسيد الشارع على الخشبة، معتمداً على خمسة ممثلين محترفين وهم في قمة رشاقتهم ووعيهم ويقظتهم ومسؤوليتهم على أساس أنهم رواة الحكايا، متنقلين بين شخصية وأخرى من دون فقدان صفتهم كجوقة مسرحية.
إن عبارة «نحن ممثلون» تحرك تحتها عرض «3 حكايا» وهي مفتاح العلاقة بين المتفرج والممثل، ولعبة التغريب بأكثر من أسلوب مسرحي منعت استلاب المشاهد إلى شخصيات تقليدية أحادية غارقة في خصوصية درامية لا تقبل النقاش، أو إلى خشبة محددة الأبعاد والأهداف تجعل المتفرج خارج الفرجة فلا يستطيع اختراق الوهم إلى حقيقة المشاركة التي يفرضها العرض ويحلم بها مسرح الشارع لدى أيمن زيدان.
ويحط الممثلون في الشارع المفترض، وهم يرتدون ثياباً أو أسمالاً زاهية تليق بممثلين يعرضون في شارع فقير، ويقومون بدور الرواة، وهم يشاركون المتفرج حكايتهم.
وقد استطاع عرض «3 حكايا» تحقيق مهمات مسرح الشارع من خلال جوقة ممثلين بارعين هم حازم زيدان، وقصي قدسية، ولمى بدور، ومازن عباس، وخوشناف ظاظا، الذين تنقلوا بين حكاية وأخرى وجسدوا أدوار العمال وأرباب العمل والأصدقاء والمحيطين وهم يرتدون الأقنعة على وجوههم، ويبدلون قطع الثياب المناسبة فوق أسمالهم، ويحركون الدمى التي توفر للعرض تقديم شخصيات لا حصر لها، لكنها تساهم في التأكيد على دور الممثل كراوٍ للحدث وخاصة أن الممثلين يرتدون أقنعة فوق وجوههم.
ويحقق عرض «3 حكايا» كمسرح شارع هدفاً جعل المتفرجين البسطاء أبطال المسرح، والظالمين المستبدين أشرار الحكاية، فالبطل في مسرح الشارع ليس الممثل، أو الشخصية التي يجسدها بل هو المتفرج وهو يراقب المأساة ويمارس السخرية ويدلي بالنهاية بالحكم، فلا وجود في العرض للبطل الإيجابي الحاسم للصراع بين الخير والشر، بل إن البطولة هي لمسرح الشارع ذاته ولجوقة الممثلين كرواة للحكايا وذلك بالمشاركة مع المتفرج الشعبي الذي يصدر الحكم النهائي للعبة المسرحية.

عروض لاذعة
يدرك عرض «3 حكايا» كمسرح شارع أنه يلتقي جمهوراً شعبياً مشحوناً بالمعاناة والألم والسخرية فيقدم له شحنة فنية مناسبة ومماثلة، وفي هذا اعتراف بالواقع الذي يعيشه المتفرج ومحاولة صعبة للوصول إلى أعماق إنسان هذه المرحلة المصيرية.
وتنظر حكايات أيمن زيدان من زاوية عين إنسانية شعبية تدين الظلم، ورؤية لا تقبل المصالحة مع الاستعباد والفساد والاستبداد بالحياة الشعبية، وقد أجادت تقنية 3 حكايا في استخدام الهزلية التي كانت دعامة لكوميديا الموقف.
إن السخرية من الفساد والفاسدين بأشكال هزلية بشعة ومواقف دونية تمثل من ناحية أخرى أقصى حالات التعاطف مع الألم التراجيدي للطبقة الشعبية، وهي السمة الواضحة في أعمال أيمن زيدان، وفي أكثر حالاتها وضوحاً في عرض «3 حكايا» ذلك إن مرارة السخرية ليست إلا حالة من الرفض والشعور بأننا أقوى مرتبة من الفاسدين، ونحن نراهم بعين الاستهزاء لا بعين الخوف.
وهي التي تجعل المتفرج بطل حكايته، أقوى من الموقف الفاضح، وهو يرفض أن يصير الإنسان كلباً، بهذا تساهم عروض أيمن زيدان في سد فراغ غياب النص المسرحي المحلي، لكن المسؤولية والإتقان والجرأة لا تغيب في عروضه المسرحية، نحن بحاجة الآن فعلاً إلى رجال مسرح وفناني شعب مثله.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن