قضايا وآراء

تركيا خارج «ناتو».. نتيجة منتظرة أم أضغاث أحلام؟!

| فرنسا- فراس عزيز ديب

في افتتاحيتها قبل أمس تساءَلت صحيفة «التايمز» البريطانية عن جدوى استمرارِ عضوية تركيا في «ناتو»، تحديداً معَ بدءِ وصول شحناتِ قطع بطاريات الدفاع الجوي الروسية «إس400»، ما يُعتبر عملياً جمعاً للأضداد في ذات الساحة، بل كان لافتاً أن الصحيفة خلصت إلى نتيجة مهمة مفادها: على «ناتو» اتخاذ الحلول السريعة تجاهَ تركيا، قبل أن يمتلكَ آخرون في الحلف الشجاعة اللازمة لإعادة مد جسور التواصل مع الروس.
في الواقع فإن أكثر ما يثير الاهتمام بكل هذا الكلام هو عبارة «اكتساب الشجاعة اللازمة»، لأن ربط هكذا تحوّل بفرضية الشجاعة يأخذنا لأكثر من تفسير: منها مثلاً اعتراف ضمني بأن الاستدارة تجاهَ روسيا كصديقٍ وحليف بحاجةٍ لشجعانٍ لا تابعين، كذلك الأمر فإن الخوفَ من عدوى الشجاعة هو إقرار بأن الطرف المقابل يمتلك الكثير من المغريات لجعلهِ قبلةَ جذبٍ للدول التي سئِمت العيش في كنفِ مفرزات الحرب الباردة كـ«ناتو»، لكنّ أخطر ما قَد يحملهُ اعتراف الآخر بحاجةِ المتمردين على «ناتو» لهكذا شجاعة هو خوفهم من تفشي إحساسهم بالوهن.
ربما باتَ من السذاجةِ بمكان وسطَ ما يعيشهُ هذا العالم من تحولاتٍ كبرى أن نطرحَ سؤالاً عن شعورِ الأوروبيين وهم الذينَ يشكلون الأغلبية الساحقة من «ناتو» بالوهن، لأنهم أساساً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يحاولوا الاستثمارَ بفائضِ ما لديهم من قوةٍ، تحديداً أن أهم جناحَين بهما فرنسا وألمانيا سقطا توالياً تحت رحمةِ المساعدات لإعادة الإعمار، والسعي للتكفير عن «ذنوب» النازية بحق الإنسانية العالمية.
بالتأكيد الحديث هنا ليس عن التطور التقني، ولا الناتج المحلي، نحن نتحدث عن قدرةِ هذا التكتل مجتمعاً أن يكون فاعلاً على مستوى رسم السياسات الدولية والتأثير بها، والتي تراجعَ عنها لصالح الولايات المتحدة الأميركية، هم لم يعودوا قادرين حتى على إعادة صياغةِ علاقة تكاملٍ لا تضاد مع روسيا رغم كل ما يربطهم بها في مجال الحاجة للطاقة للحفاظ على طفرتهم الاقتصادية فكيف لهم أن يتمردوا على ما هو أسوأ؟
على هذا الأساس يبدو أن الخوف من انقطاع السبحة تحديداً في الدول المكتفية اقتصادياً ضمن «ناتو» أمرٌ منطقي وليس مستبعداً لكن هذا الأمر سينقلنا فعلياً إلى السؤال الجوهري الأهم: هل تركيا اليوم بتلك الشجاعة التي هزت قواعد الحلف بخطواتها الانفتاحية تجاه روسيا؟
تقولُ الحكمة إن ما من أحد ضعيف، لكن هناكَ من يُدرِك نقاطَ قوتهِ وهناك من لا يزال يبحث عنها.
في واقعِ الحال قد لا تكون نقاط قوتك مجتمعة فقط بما تمتلكهُ من عناصر ترتكز عليها هذه القوة، لكنها قد تكون بنقاطِ ضعف الآخرين، وعندما تنجح باستغلالها قد تحقق ما تصبو إليه جزئياً لكنك ستبدو كمن يكذب الكذبة ويصدقها ليعيش على «وهم القوة» الذي يصيب الإنسان بمقتل.
على هذا الأساس بنى النظام التركي أحلامهُ منذ انطلاق بدعة الربيع العربي، ولو أنه راجعَ نفسهُ عملياً لاكتشف أن ما من نقاط قوة حمته أكثر من نقاط ضعف الآخرين، وهل هناك من نقاط ضعف تستطيع البناء عليها أكثر من قابلية المجتمعات من حولك للتضعضع أو الاصطفاف بنسبٍ مختلفة بتأثير الخطابات العنصرية والمذهبية والأخونجية الإجرامية؟ أرادَ ببساطةٍ أن يروج لنفسهِ كقادرٍ وحيد على نقل المنطقة برمتها إلى حيثُ يريد «ناتو»، لا حيث تصل إليه قواعد «ناتو».
منذُ بداية التدخل الروسي في سورية استجابةً لطلب القيادة السورية في مساعدتها بالحرب على الإرهاب، بدا واضحاً أن الروس يدعمون فرضيةِ أنه الأفضل عملياً احتواءَ التركي لا مواجهتهُ، هذا العقل البارد الذي أرادَ التلاعب بالتركي وصولاً لفرضيةِ سحبهِ من «ناتو» بدا كأنه واجهَ الكثيرَ من العثرات في الدفاعِ عن وجهةِ نظره، منها مثلاً إسقاط مقاتلة السوخوي الروسية في عام 2015 وقيام الإرهابيين المدعومين من النظام التركي على الأرض بالسحلِ والتمثيل بجثة الطيار، واغتيال السفير الروسي في اسطنبول «آندريه كارلوف» في عام 2016 وغيرها من القضايا التي تتعلق بقدرة النظام التركي على الالتزام بتعهداته، من بينها مثلاً ما أقره «مسلسل اجتماعات آستانا» حول الفصل بين التنظيمات الإرهابية وتحييد المعتدلة منها على الأرض تحديداً في إدلب وريفها.
لكن بذات الوقت هناك من يتحدث عن إنجازاتٍ تحققت على الأرض انطلاقاً من فكرة احتواء التركي لا مواجهته، من بينها وصول الجيش العربي السوري إلى أطراف خان شيخون في ريف حماة أو ما يعرف باتفاق «شرق سكة القطار وغربها»، بل هناك من يذهب أبعدَ من ذلك بالترويج لأي تقدم إعلامياً كثمرة من ثمرات كذبة التفاهمات، واللافت أن هكذا ترويج كان عملياً يفيد الطرف المعادي فمثلاً عندما وقعت معركة تحرير حلب خرجت أصوات لتقول: إن التركي باع أتباعهُ وإن «النظام السوري» دخلَ المنطقة استلاماً وتسليماً، هذا الكلام كان يُعطي التركي عملياً فرطَ قوةٍ بأنه قادر أن يبيع ويشتري بعيداً عن الولايات المتحدة، لكن بالنهاية كان الحلف المقابل مستفيداً من هذه الفرضية بتقزيم انتصارات الجيش العربي السوري، على هذا الأساس بدت الحالة التركية مثارَ جدلٍ فلا التفاهمات حققت أي إنجاز ولا التعهدات تم تنفيذها على العكس، هناك من يرى باحتلال عفرين وما يجري من تغييرٍ ديموغرافي في الشمال السوري انجازين كان الأتراك عموماً بمختلف انتماءاتهم السياسية يحلمونَ بهِ منذ عقودٍ ليبقى معها السؤال المنطقي: هل إن صفقة «إس400» هي وديعة روسية ستظهر نتائجها تباعاً في الملف السوري أم هي مستقلة عن ذلك هدفها الوحيد زعزعة «ناتو» لا أكثر؟
بالتأكيد هناك من ينتظر عملياً فرضية أن ما بعد الـ«إس400» ليس كما قبلها، وبمعنى آخر: إن النظام التركي اليوم بحاجةٍ فعلياً إلى ظهيرٍ يستند إليه بعد أن لم يبقَ له في هذا العالم إلا روسيا وإيران، أي إن هناك خطواتٍ عملية سيجري اتخاذها في الملف السوري تبدأ بعودة اللاجئين تمهيداً للحل السياسي وصولاً لإغلاق ملف إدلب، لكن هذا الكلام يبدو عاطفياً وبإسقاطٍ بسيط فإن هذا الكلام قيلَ بعدَ توقيع الاتفاق النووي مع إيران، حينها كان يُقال بأن ما قبل الاتفاق ليس كما بعده، بل إن أخطر ما في هذا الكلام يومها السؤال الذي يتجاهله الجميع: ماذا لو أن وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون اليوم هي من تحكم البيت الأبيض؟ سؤال يتجنب الجميع الإجابة عنه لما يحمل بطياته سهاماً قد تصيب الصديق قبل العدو تحديداً بتطبيق نظرية «الصحوة الإسلامية» في المنطقة بجناحيها «السني والشيعي» كما يسمونهما، لكن إن تجنبنا الخوض بهذه التفاصيل فإننا سنجيب ببساطة:
حتى الآن لا يبدو الصمت الأميركي تجاهَ ما يجري من تحولاتٍ في السياسة التركية ناتج عن عبث، فهناك رماد تحت النار وبمعنى أدق، فإن الأميركيين يتعاطون بعنايةٍ مع الضعف والهوان الذي يعانيهِ النظام التركي، هم يدركون أن التغيير من الداخل لابُد آتٍ، حتى وساطة مشيخة قطر قبلَ أيام والتي تكفَّل بموجبها النظام القطري بدفعِ المعلوم لكي يتراجع الرئيس الأميركي عن فرضِ عقوباتٍ على تركيا كردٍّ على ذهابها بعيداً في صفقة الصواريخ الروسية تبدو مفاعيلها آنية في إطار الابتزاز الترامبي لا أكثر، تحديداً إن وضع الليرة التركية في الحضيض، هذا يعني أن البناء على فرضيةِ سحب تركيا من «ناتو» هو أشبه بالبناء على الرمال، أما نظرية أن أردوغان الضعيف أفضل من غيره القوي فهي عملياً نظرية أثبتت فشلها لأنها ببساطة تتجاهل أن الطرف الآخر أيضاً يريد الاستثمار بضعف أردوغان، بالطريقة ذاتها التي يستثمرون بخنوع أنظمة البترودولار وكان آخر نتائجها عودة القوات الأميركية إلى بعض هذه المشيخات بذريعة التصدي لـ«الخطر الإيراني»، تحديداً أن المدافعين عن فكرة إنقاذ رجب طيب أردوغان من الانقلاب المزعوم جاء ليمنع وصول من هم أسوأَ منه هل حقاً هناك من هم أسوأ منه!؟
في الخلاصة: لا يمكن لمن هو جزء من المشكلة أن يتحولَ لجزءٍ من الحل، لا يمكن لمن يعاني الضعف والوهن أن يكون نقطة ارتكازٍ في إستراتيجية عميقة كتلك القائمة على فرضية سحب تركيا من الـ«ناتو»، لذلك فإن أي حديث عن الاستثمار بأردوغان بما يتعلق بالملف السوري يبدو قابلاً للنقاش، أما الحديث عن عقاب لـ«ناتو» بأردوغان فلا يبدو عملياً أشبهَ بأضغاثِ أحلامٍ فحسب، بل يبدو كمن يقرر أن يحفرَ نفقاً بمسمار.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن