قضايا وآراء

الصراع الإيراني الأميركي..الدروس والآفاق

| فارس الجيرودي

وضع أرباب المصالح الاقتصادية الكبرى حول العالم أيديهم على قلوبهم وهم يراقبون التوتر بين إيران والولايات المتحدة وحليفتها بريطانيا يقترب من ذروته في مضيق هرمز الذي تعبر منه 40 بالمئة من إمدادات الطاقة المستهلكة عالميا كل يوم، وفيما بدأ التوتر مع الانسحاب الأميركي من الاتفاق ومع إعلان الولايات المتحدة عن نشر قوات بحر-جوية ضاربة في منطقة الخليج منذ نحو شهرين بهدف ردع إيران، فقد أسفرت جولات الاحتكاك بين الطرفين في المضيق عن نتيجة معاكسة تماماً، إذ يبدو حتى الآن وكأن التوتر الذي خلقه الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد منح إيران فرصة إثبات سيطرتها الفعلية على أهم معبر مائي في العالم، وهو ما لم يتحقق لأي دولة في المنطقة مثله أو ما يقاربه سابقاً.
فرداً على حادثة احتجاز ناقلة النفط الإيرانية في جبل طارق، قامت إيران بإيقاف ثلاث ناقلات نفط حتى الآن ثم أطلقتها، عدا ناقلة نفط بريطانية، ولم ينجح أسطول المدمرات الغربية الضخم المرابط في الخليج في عرقلة عمليات الاحتجاز تلك، بل تحدثت الصحافة الإنكليزية عن استخدام إيران لتقنيات متطورة لتزييف نظام الـGPS الخاص بناقلة النفط وإجبارها على دخول المياه الإقليمية الإيرانية، وعن توجيه الإيرانيين تهديدات للفرقاطة البريطانية «مونتروز» التي كانت ترافقها، لمنعها من التدخل لإنقاذها.
وكان اللافت أيضاً في حادثة إسقاط طائرة التجسس الأميركية الأحدث من الدفاعات الجوية الإيرانية، ليس فقط نوعية الطائرة التي تكلف تطويرها أكثر من 200 مليون دولار، والتي كان من المفترض أنها مخصصة أصلا للحرب الالكترونية والتشويش على الرادارات المعادية، بل كان المهم أكثر ما نشرته إيران من معلومات دقيقة عن مسار الطائرة المسيرة منذ لحظة إقلاعها من القاعدة العسكرية في الإمارات، إلى لحظة إسقاطها، ما يعني قدرة الرادارات الإيرانية على رصد كل التحركات في منطقة الخليج، وفرض السيطرة عليه جواً وبحراً، وهو ما دعمه الفيديو الذي ردت به إيران على ادعاء ترامب إسقاط طائرة مسيرة إيرانية لاقترابها من إحدى حاملات الطائرات الأميركية في الخليج، حيث تَظهر الطائرة الإيرانية في الفيديو مستمرة في التحليق فوق حاملة الطائرات الأميركية في نفس توقيت التصريح الذي أدلى به ترامب، وتبدو حاملة الطائرات الأميركية كهدف سهل للطائرات المسيرة الإيرانية التي تمتلك القدرة على القصف، وهدفاً كذلك لصليات الصواريخ التي يمكن أن تنطلق من البر الإيراني في أي لحظة وأن توجهها تلك الطائرات المسيرة لتحقيق الإصابة الدقيقة.
لكن الثقة التي أظهرتها إيران في مواجهة التصعيد الأميركي، لا تعود إلى امتلاكها تفوقاً عسكريا تقنياً على الولايات المتحدة، التي تنفق كل عام ميزانية خيالية على أبحاث تطوير وصناعة الأسلحة لم تنفقها أي دولة في التاريخ البشري، صحيح أن إيران صعدت إلى المركز 17 عالمياً والأول على الشرق الأوسط في الإنتاج العلمي المنشور وذلك بدءاً من عام 2013 الذي نشرت خلاله 2925 مقالاً علمياً متخصصاً، وصحيح أن إيران تنفق سنويا نحو 6.5 مليارات دولار على البحث العلمي، لكن هذا لا يجعلها قريبةً حتى من مستوى التطور التكنولوجي الذي وصلته القوة العسكرية الأولى في العالم.
بل إن ما يمنح إيران ميزة التفوق على الولايات المتحدة في المواجهة الحالية هو وقوع ميدان الاشتباك على مرمى حجر أو مرمى صاروخ بالأصح، من أراضيها، وأنها كيفت إمكانياتها التسليحية على هذا الأساس، وذلك من خلال تطوير ترسانة ضخمة جداً من الصواريخ الأرض أرض والأرض بحر، والعمل على زيادة دقتها، إضافة إلى أسطول من الطائرات المسيرة القادرة على الرصد والقصف والتي أثبتت الحرب اليمنية قدرتها على التملص من كل الدفاعات الجوية الأميركية المتطورة التي يديرها خبراء أميركيون في السعودية، إلى جانب تطوير إيران أسطولاً كبيراً من القوارب العسكرية الصغيرة والمتوسطة فائقة السرعة، فبينما اعتمدت الولايات المتحدة في مغامراتها العسكرية العدوانية ضد دول العالم الثالث على حاملات طائراتها التي تمثل قواعد عسكرية صغيرة يتم تحريكها بمواجهة الدولة المستهدفة، فإن هذه الحاملات تحولت في الحالة الإيرانية إلى أهداف سهلة، أمام بلد بمساحة قارية وتضاريس متنوعة توفر إمكانية تخبئة وتحصين الصواريخ حيث يستحيل كشفها، وسواحل طويلة تشكل منطلقاً لأسطول القوارب السريعة التي يمكن أن تهدد الأسطول الخامس الأميركي في الخليج بالفناء في حال اندلاع مواجهة شاملة.
لذلك ترسم لنا نتائج المواجهة الأميركية الإيرانية الحالية ملامح نظام عالمي جديد يخرج للنور على أنقاض نظام القطبية الأحادية المتداعي، وهو على الأرجح نظام لن تفرض فيه قوة عظمى واحدة سيطرتها على العالم، بل لن تتشارك قوتان عظميان حتى في إدارة ملفات الصراع الدولية كما كان الحال عليه في الحرب الباردة، بدلاً من ذلك ستكون هناك مجموعة من القوى الإقليمية الكبرى التي تفرض كل منها نفوذها في مجالها الحيوي، وهي النتيجة التي سبق أن تنبأت به لجنة «بيكر هاملتون» الأميركية التي تشكلت عام 2006 لدراسة سبل الخروج من الورطة العسكرية في العراق، وانتهت إلى اقتراح تسوية شاملة في المنطقة تتضمن الاعتراف بدور إيران الإقليمي، وإيجاد حل للصراع العربي الإسرائيلي مبني على الانسحاب من الأراضي المحتلة، النصيحة التي لم تأخذ بها مراكز السلطة الحقيقية في الدولة الأميركية، وفضلت الاستمرار في التصرف كما لو أن موازين القوى المتغيرة بسرعة لا تزال تسمح للولايات المتحدة بالاستمرار بالانفراد بالتحكم بشؤون العالم.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن