قضايا وآراء

تركيا للاجئين السوريين: «عودوا انتهت مصلحتنا»

| سركيس قصارجيان

صفقة جديدة من فصول الاستثمار السياسي لورقة اللاجئين السوريين بدأت تلوح في الأفق التركية مع إعلان الزعيم الأوحد للبلاد عن جملة من خطوات التضييق على «الإخوة المساكين» كما وصفهم يوماً السلطان العثماني.
الإعلان عن الصفقة جاء في لقاء وزير الداخلية التركي سليمان صويلو برفقة رئيس دائرة الهجرة ووالي اسطنبول مع عدد من الصحفيين السوريين والعرب والأتراك بعنوان «الحوار والاستماع إليهم»، لكن المضمون حسب أحد الحضور، وأتحفظ عن ذكر اسمه لأسباب تخص أمنه، كان إملاء جملة من القرارات «المفاجئة» على الصحفيين والطلب منهم التعاطي معها بإيجابية من دون فتح باب للحوار حول أي منها، على حين اقتصرت مداخلات الحضور، حسب المصدر ذاته، على طرح قضايا شخصية عادة، وفئوية في أفضل الأحوال، تتعلق بطلب جنسية لأحد الصحفيين وتجديد إقامة عائلة الآخر وغيرها من الاستجداءات التي لم تلق آذاناً مصغية.
أقسى هذه القرارات وأشدها وطأة هو تقييد حركة اللاجئين بما يشبه الإقامة الجبرية عبر التدقيق في إقاماتهم ومنعهم من التنقل أو الإقامة إلا في الولاية التي حصلوا على موافقتهم منها، وهو ما ينذر بطرد عشرات الآلاف من السوريين من مدينة إسطنبول مثلاً إلى مدن «هامشية» سكانها الأصليون من الأتراك عاجزون عن إيجاد فرص عمل فيها.
هذه «التجاوزات» وغيرها من السوريين ظلت محط «غض الطرف» طوال سنوات الأزمة، فما الذي دفع السلطات التركية الآن إلى قمعها؟
بداية، من البديهي القول إن ملف اللاجئين السوريين في تركيا، والمتجاوز عددهم الـ3.6 ملايين حسب إحصاءات دائرة الهجرة التركية، لم يكن يوماً قضية إنسانية كما حاول إخوان تركيا تصديرها إلى العالمين الغربي والإسلامي.
أنقرة، صاحبة الباع في التعامل مع ملف اللاجئين وتحويله إلى مكسب مادي منذ الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003 مروراً بحرب الناتو على القذافي والإطاحة بمرسي في مصر وحربي اليمن وسورية، كل هذه الأحداث وغيرها حولت من تركيا مركزاً لاستقطاب المعارضين لحكومات بلادهم بدءاً من الحدود وصولاً إلى المعارضة الموريتانية، فضلاً عن تحول إسطنبول إلى مركز استقطاب ثان للإخوان المسلمين حول العالم بعد لندن.
بالعودة إلى اللاجئين السوريين فقد عملت السياسة التركية على تحويل هذا الملف إلى أسهم مربحة في القطاعين السياسي والاقتصادي وعبر مرحلتين.
وبدأت المرحلة الأولى مع انطلاق شرارة الأزمة السورية، حينها عملت حكومة أردوغان على فتح الحدود على مصراعيها وعبر اتجاهين: دخول اللاجئين إلى تركيا مقابل تصدير «المجاهدين» إلى الداخل السوري.
نجحت أنقرة بهذه الإستراتيجية في التحول من متسبب رئيسي لمآسي المهاجرين إلى حضن دافئ لإنقاذهم، كما فرضت نفسها كلاعب أساسي في الملف السوري بعد أن عجزت عن انتزاع هذا الدور من الحكومة السورية في البدايات الأولى للأزمة.
الخطاب التركي في هذه المرحلة تركز على «التسول» باسم اللاجئين فوق الطاولة، وابتزاز دول القارة العجوز بعد تشجيع الهجرة غير الشرعية عبر البحر، خلف الكواليس.
وخلافاً لما روجت له الحكومة التركية من أعباء مالية باهظة على خزانتها لتأمين اللاجئين السوريين، فقد كشفت صحيفة «صباح» مثلاً، وهي من الصحف الموالية لأردوغان، في مقال لها بتاريخ 17 تشرين الأول عام 2012 بعنوان «سيل دولارات من سورية على ظهر البغال» عن قيام «رجال أعمال سوريين بتهريب 300 مليون دولار إلى تركيا خلال شهري آب وأيلول من العام ذاته، مع توقع وصول الرقم إلى 500 مليون دولار قبل نهاية العام».
ورغم اختفاء المقالات والأرقام بعد ذلك في الإعلام التركي لأنه لا يخدم سياسة التسول المتبعة، إلا أن الرقم المقدر للأموال المهربة إلى تركيا بين عامي 2011-2015 تجاوز 10 مليارات دولار، مع العلم أن احتياطي المركزي التركي من العملة الأجنبية اليوم يبلغ 24.9 مليار دولار، حسب بعض المصادر الإعلامية، ناهيك عن عمليات النهب التي قامت بها المجموعات المتطرفة المرتبطة مع الأجهزة الأمنية التركية للبنى التحتية والسكك الحديدية والمعامل الحكومية الضخمة ومنشآت القطاع الخاص وبيعها في تركيا بأسعار زهيدة، بالإضافة إلى تجارة الآثار التي تحتاج إلى مقالة خاصة لكشف تفاصيلها.
من جهة أخرى، أجبرت الموجات البشرية إلى شواطئ المتوسط الغربية، الدول الأوروبية على الرضوخ لمطالب أنقرة وبدأت بدفع مستحقات شبه دورية مقابل مكافحة ظاهرة تهريب البشر، التي باتت مهنة مباحة في تركيا تنتشر إعلاناتها على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي في بلد عرف بفرض عقوبات السجن على من تتفوه بكلمة ضد النظام الحاكم عبر هذه المواقع.
كل هذه العوامل وغيرها أسهمت في بقاء الاقتصاد التركي المتأزم صامداً إلى حين توقف تدفق «المال الساخن» أو كما يسميه الإعلام التركي «المال مجهول المصدر» إلى الأسواق التركية، فبدأت أزمات تراجع قيمة الليرة التركية، والتضخم، وغلاء الأسعار، والبطالة تطفو على السطح ما بات يشكل تهديداً على مستقبل حزب «العدالة والتنمية» السياسي القائم على وعود «الرخاء الاقتصادي».
يمكن اعتبار أبرز سمات المرحلة الثانية، ضبط الحدود وتحويل الحركة عبرها باتجاه واحد إلى الداخل السوري فقط، إن كان لجهة المهاجرين العائدين أو المجاهدين الوافدين، وأكبر دليل على ذلك حوادث إطلاق النار من الجندرما التركية على المدنيين المتسللين وإرداء البعض منهم قتلى عبر الحدود وإذلال المقبوض عليهم ونشر مقاطع فيديو لردع الآخرين من القيام بالمغامرة المباحة قبل مدة قصيرة.
ويعود تغيير أنقرة لسياستها حيال اللاجئين السوريين إلى مجموعة من العوامل أهمها:
– الضغوطات الداخلية التي تعرض لها الحزب الحاكم من الشريحة الشعبية المعارضة، وبدرجة أقل من قاعدته الشعبية.
ولأن السياسة السابقة تركزت على التسول باسم اللاجئين والحديث عن أرقام «خلبية» تم صرفها عليهم، فقد عجزت الحكومة التركية عن شرح فوائد هذه الإستراتيجية من الناحيتين السياسية والاقتصادية، ولم تكف الناحية الإنسانية لإقناع الأتراك بصوابية خطواتها.
– فشل خطة الإخوان في «إسقاط» الرئيس بشار الأسد وتراجع الدول الخليجية الفاعلة والغربية المساندة، ما أجبر أردوغان على تغيير هدفه المعلن «بالصلاة في الجامع الأموي» إلى احتلال الشريط الحدودي الشمالي.
وقد شكل احتلال عفرين وضمه لمثلت إعزاز جرابلس الباب، أولى الخطوات العملية لهذا المشروع على الأرض، ولكي تنجح هذه التجربة كان لا بد من تصديرها إلى الرأي العام العالمي تحت غطاء إنساني وهو ما تسعى إليه الحكومة التركية حالياً عبر الإعلانات المتتالية عن أعداد المهاجرين السوريين العائدين إلى المناطق الواقعة تحت الاحتلال التركي وتقديمه كنموذج مناسب يمكن تطبيقه في باقي المناطق في حال رغب الغرب في حل ملف اللاجئين على أراضيه بعد التخلص من شبح القاعدة والمنظمات المتطرفة المرتبطة بها والمهيمنة على مساحات من سورية عبر الشريك التركي.
– إنشاء شريط بشري «موال لأردوغان» بحكم «مصلحة القوت اليومي» على طول الحدود، ما يضمن أمن تركيا القومي من ناحية الميليشيات الكردية المدعومة أميركياً، ويدعم خطة إيصال الإخوان إلى مفاصل الدولة السورية مع أي استحقاق ديمقراطي قادم تحت رقابة أممية، وهو المطلب الذي دأبت أنقرة على تكراره في كل مناسبة منذ اليوم الأول من اندلاع الأزمة السورية مقابل طي الملف «ولفلفته» في حال موافقة دمشق.
– نشوء جيل جديد من السوريين المتطبعين بالثقافة التركية واللغة التي درسوا بها خلال سنوات تأسيسهم التعليمي، كوسيلة أقوى وأسرع من المسلسلات التلفزيونية التركية والمسرحيات السياسية التي دأب «العدالة والتنمية» على أدائها خلال العقد الأول من عمره السياسي وخاصة في موضوعات القدس والقضية الفلسطينية والدفاع عن الإسلام والمسلمين في العالم وغيرها.
إذاً فإن المصلحة الأردوغانية اليوم تتجلى في إعادة هؤلاء اللاجئين، الذين عملت تركيا سابقاً على إخراجهم من ديارهم، إلى الداخل السوري ليس بالضرورة إلى المناطق التي خرجوا منها، ما يعني أن سياسة التضييق على اللاجئين في تركيا ستتصاعد وتيرتها ليستهدف «كل من لا فائدة علمية أو مادية منه»، وهو ما أعلن عنه وزير داخليتها قبل أيام وأردوغان بالأمس عندما تحدثا عن تشجيع اللاجئين على العودة وترحيل مرتكبي الجرائم بشكل فوري.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن