ربما سنحتاج للكثير من الوقت ليأتينا الجواب على سؤالٍ منطقي:
إلى متى سنظن أن الحلولَ لمشاكِلنا العالقة تحديداً في العلاقة بين المسؤول والمواطن أو الالتزام بالحقوق والواجبات هي بـ«الرقابة»؟!
في الواقِع عندما يكون حتى «اللايك» الفيسبوكي مُرَاقَباً، يصبح من الطبيعي ابتداعَ الحلولِ لفشلنا بضبط الكثير من التجاوزات في قطاع الخدمات كالنقل ببدعة «الرقابة»، ولعلَّ آخرَ ماتفتقت به تلك العقول المبدعة تجريب وضع جهازٍ لمراقبة عمل التكاسي والسرافيس يقولون إن اسمه «جي بي إس»، بعدَ أن كثرت الشكاوى عن قيامِ الكثير من السائقين بالاستثمار ببيعِ مخصصاتهم من الوقود المدعوم دون تحريك سياراتهم، ومنهم من يبتز المواطن بادعائِه شراءَ الوقودِ بالسعر الحر بسبب انتهاءِ مخصصاته الشهرية!
بالتأكيد لا مجالٍ هنا للدخولِ بمتاهات الأرقام إن كان لعدد الأجهزة المطلوبة أو النفقات و الكادر البشري الذي سيتولى المراقبة والضمانات بعدم تحولها إلى بابٍ جديد للفساد، لكننا سنسأل:
لماذا لا نحاول الاستفادة من تجارب الآخرين؟
قبل سنواتٍ كانت إحدى الدول الأوروبية تعاني في مجالِ ضبط قطاع النقل بسيارات الأجرة لأقل من تسعِة ركاب، تحديداً لجهةِ التهرب الضريبي الذي يمارسهُ السائقون لأنهم عملياً يتلقون معظم مدفوعاتهم «كاش»، جرى إقرارَ الحل عبر تعديلين مهمين، الأول هو إلزام سائقي التاكسي بوضعِ جهاز دفع بالبطاقة البنكية وهو ما يستحيل تطبيقهُ في سورية حالياً، أما الثاني فهو تحفيز السائقين على التصريح عن أرباحهم الحقيقية بالحد الأعلى عبرَ تقديمِ الحوافز لهم بطريقتين:
الأولى، إيقاف منح التراخيص الجديدة للمهنة، ما جعل ثمن الترخيص القديم مرتبط عملياً بتصريح الضرائب الذي يقدمهُ من يرغب ببيع ترخيصه، ففي العاصمة مثلاً قد يصل سعر الترخيص الواحد لما يقارب مئة وسبعين ألف يورو، لكن حتى يستطيع صاحب هكذا ترخيص بيعه بهكذا رقم عليهِ أن يقدم إقراراً ضريبياً عن السنوات الثلاث السابقة يثبت فيهِ أن لديه ربحاً صافياً يغطي هكذا رأس مال.
الثانية وهي منحهم «ضريبة مسترجعة على الوقود المستخدم»، حيث يقوم السائق نهايةَ كل عام بتقديم فواتيرَ بحسابات استهلاكهِ للوقود فتُعيد له الدولة ما قيمته 25 بالمئة، هنا لا يستطيع السائق أن يتلاعب بالكميات لأنه عندها عليه أن يقدم نسبة ربحٍ توازي استهلاكهُ للوقود.
قد تكون الدولة هنا خسرت جزءاً من ضرائِبها لكنها حكماً استعادت الكثير عبر التحفيز لا المراقبة، وجعلت استهلاك وقودها المدعوم من مال الشعب يحصل عليه من يقدم خدمات توازيه وبالتالي ضرائبَ متصاعدة.
بالتأكيد نبدو اليوم بعيدين كل البعد عن فكرةِ إصلاح وتطوير هذا القطاع، لكن علينا ضبط الأمور بطرق تفيد الجميع وليس بأسلوب «الرقابة والتتبع»! فالسائق الذي يدّعي أنه يشتري البنزين غير المدعوم ويرفع تسعيرته لأجلِ ذلك، فهو عملياً صرَف كامل مستحقاته المدعومة ودرَّت عليهِ مدخولاً جيداً، حينها ليدفع ضرائبَ أكثر لا أن تكون الضرائب متساوية بينه وبينَ من يلتزم.
في الخلاصة: إن فكرة الرقابة هي فكرة فاشلة ما لم تكن مرتبطة بتطبيقٍ حازم للقوانين لا تستتثني أحداً، لكن الأهم من كل هذا وذاك ضرورةَ خلقِ أسلوبٍ يحقق نتيجة مزدوجة: ضمان اندماج المكلّف بنوع من الرقابة الذاتية أولاً، وتقديم المزايا لجعل المكلف يدرك أن الدولة لا تتعاطى من باب الربح بل من باب جعل الجميع يتساوون في الخدمات ثانياً، أما الانزواء خلف مصطلح «التتبع» أو «الرقابة» الذي لم يحقق لنا عبر عقودٍ إلا المزيد من تفشي الفساد والمحسوبيات على جميع الصعد فهو عرضة للفشل والمواطن ما زال يدفع الأثمان، ونخشى ما نخشاه أن تعجب الفكرة وجدواها الاقتصادية عتاةَ التخطيط الاقتصادي لدينا فيحاولون تطبيقها في شتى مجالات الحياة، لمَ لا؟ ماذا لو استيقظنا يوماً وشاهدنا إعلاناً تلفزيونياً يقول:
محتارة وماعم تعرفي وين راح بالمرَّة.. خايفة من عينو الزايغة تنكسر الجرة، الحل عنا:
«جي. بي. إس».. ولا تجيبي ضرة!