قضايا وآراء

صباغ سيبيري على سواد تركي

| عبد المنعم علي عيسى

من المؤكد أن يوم 12 تموز هو يوم مفصلي في التاريخ التركي الحديث، وربما سيرسخ الحدث الذي شهده ذاك اليوم عميقاً في الكيان التركي، والمؤكد أيضاً أن ما جرى فيه أضحى من أهم التحولات التي شهدتها الجمهورية التركية منذ العام 1952، الذي يؤرخ عملياً لدخول تركيا في حلف شمال الأطلسي رسمياً.
في صبيحة ذلك اليوم أعلنت وزارة الدفاع الروسية عن وصول الدفعات الأولى من منظومة «إس400» الروسية إلى قاعدة «مرتد» العسكرية بالقرب من أنقرة، وربما للأمر رمزيته أيضاً فالقاعدة كان الأميركيون هم من ابتنوها في العام 1950 مع صعود لدور الناتو بالتزامن مع الفعل، والرمزية إياها ستقف أيضاً من جديد وراء اتخاذ الأميركيين قرار وقف استخدامها في العام 1996 بالتزامن مع انهيار نظام القطبية الثنائي وانخفاض أهمية الموقع التركي في المعادلات الراسمة للنظام الدولي الجديد.
يأتي الحدث ليرخي بظلاله الثقيلة على البحيرة التركية التي لم تكن راكدة أصلاً وهي أساساً تعاني تسرباً آخذ بالاتساع في «السد» الاقتصادي الذي لعب منذ حين دوراً حامياً لصعود نجم «العدالة والتنمية» ولنظام رجب طيب أردوغان في آن واحد بدءاً من العام 2002 فصاعداً، وفي هذا السياق تشير التقارير إلى أن الدين الخارجي التركي قد لامس حدود الـ420 مليار دولار، والبحيرة تعاني أيضاً قلقاً مجتمعياً سياسياً ناجماً بالدرجة الأولى عن حال القطيعة المفاجئة مع الماضي الذي أحدثه استفتاء نيسان 2017 الذي أفضى بالانتقال إلى النظام الرئاسي ثم دخوله حيز التطبيق بعد أشهر من ذلك التاريخ، فالذات الجماعية للشعوب غالباً ما تقوم باختيار نوع الأنظمة التي ترغب في أن تحكمها أو تنضوي تحت لوائها، وهذي الحالة ترسخ بمرور الوقت حتى لتشكل أي حالة انقطاعية في ذلك الرسوخ قلقاً لن يلبث أن يتمظهر عبر العديد من المظاهر حتى إذا ما تراكمت موجباته كانت العودة من جديد إلى الحالة الأولى التي تقتضي بالتأكيد شطب الحالة الانقطاعية واعتبارها حالة عابرة، حدث ذلك كثيراً وأشهر محطاته كانت في عودة الإنكليز إلى نظام الملكية بعد سنوات قليلة من الثورة على مليكهم تشارلز الأول وقيامهم بقطع رأسه العام 1649، وحدث أيضاً مع الفرنسيين الذين عادوا إلى النظام الإمبراطوري مع نابليون بونابرت بعد عشر سنوات فقط من قيامهم بثورتهم الشهيرة 1789.
بات اليوم ركام العثرات الجاثم في طريق أردوغان في طابقه الثالث والمؤكد أن هذا الطابق الأخير ذا طابع مهم ومغاير لسابقيه من حيث الطبيعة والنتائج المنتظرة منه، فالسلاح وشراؤه ليس كأي سلعة أو بضاعة تجارية، وهو حيثما يحل تكن له حمولاته السياسية والعسكرية التي تفترض في مرحلة ما تغيراً في نظريات الأمن والدفاع وربما العقيدة التي تعتمدها الجيوش أيضاً، قد يكون مبكراً الآن الحديث عن أمور كهذه في تركيا إلا أن تبعات الحدث وفق المعطيات الأولية التي تبدت عبر قرار واشنطن باستبعاد أنقرة عن مشروع تطوير المقاتلة الأميركية الأهم «إف35» قد يدفع بانزلاقة تركية جديدة نحو موسكو لاستبدال هذي الأخيرة بالمقاتلة «سوخوي57»، وتلك حالة لو حدثت لن تكون بأقل أهمية من الخطوة السابقة سواء أكان في رمزيتها أم في النتائج التي ستترتب عليها.
ربما كانت نظرة أردوغان أحادية أو هي تقتصر على لحظ المكاسب المتأتية جراء السير قدماً في صفقة «إس400» إلى نهايتها، وذاك أمر ليس بالقليل فقد حقق من خلاله مكاسب على الضفة السورية، وكذا في مسألة التنقيب على الغاز التي انطلقت في مياه قبرص الإقليمية، كما شكل عموماً رافعة للدور الإقليمي التركي الذي كان قد دخل طور التلاشي ما قبل 9 آب 2016 اليوم الذي شهد مصالحة روسية تركية في أعقاب اعتذار أردوغان أواخر حزيران من هذا العام الأخير على حادثة إسقاط السوخوي الروسية تشرين ثاني من العام 2015، إلا أنه، أي أردوغان، قد أخطأ الحسابات في ردود الأفعال الأميركية المحتملة على إتمام صفقة «إس400» مما يمكن لحظه في تصريحه الذي أطلقه غداة لقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب على هامش قمة العشرين في أوساكا أواخر حزيران الماضي، وفيه أكد أن لا مؤشرات على إمكان فرض واشنطن لعقوبات جديدة على بلاده على خلفية إتمام صفقة الصورايخ الروسية، فواشنطن لم تتأخر في استبعاد أنقرة من تطوير المقاتلة «إف35» كما أنها لوحت بإمكان حرمان 240 من مقاتلات «إف16» تملكها تركيا من قطع الغيار، والراجح هو أن هذا كله لن يكون إلا أول الغيث على حين القادم سيأتي على هيئة تهطال يتسارع تبعاً لحالة الاحتياج التي تفرضها ظروف عدة، إذ لطالما كانت ردود الأفعال على هكذا نوع من الأفعال تسكن بعيداً عن السلطة القابعة في البيت الأبيض والمتغيرة كل أربع أو ثماني سنوات على الأكثر.
بات نظام أردوغان واستمراره رهينة حالة تشاد ما بين رافعة روسية لها تمددات جيوسياسية في سورية، واقتصادية في المياه القبرصية، تشد به إلى أعلى، وأخرى تشد به إلى أسفل قوامها داخلي أميركي، ومؤكد أن تفعيل هذي الثنائية الأخيرة وفاعليتها سيكون على موعد مهم في أيلول المقبل الذي من المرجح أن يشهد تشظي حزب العدالة والتنمية إلى أحزاب ثلاثة سوف تخرج من رحم هذا الأخير.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن