ثقافة وفن

الشعر حالة عظمى وإلا الاعتكاف … الحداثةُ في الشعر.. كيف يواجهُ الشعراءُ خيباتِ قعودهم عن التجديد؟

| أحمد محمّد السّح

يؤكّدُ الشاعر والناقد اللبناني.. بول شاؤول أن المعايير النقدية للقصيدة اليوم ستكون متغيرة، ولن تثبت أبداً وربما لن تعيش عمراً أطول من «زمن كتابة القصيدة نفسها.. تماماً مثلما هناك حشرات تعيش أقل من ثانية، وتعتبر نفسها معمّرة»، ربما يبدو هذا الكلامُ أشبه بالهيولى التي لا يُبنى عليه! ولكن من يدري؟ كلّ ما يستحيل تصوّره قابلٌ للحدوث، بناءً على التجارب التي عاشتها البشريةُ بشكلٍ عام، وعلى التجارب التي عاشتها تجربةُ القصيدةِ بشكلٍ خاص. لكنّ الأساسي في الشعر ألا يحدث تسرُّعٌ يؤدّي إلى نسفٍ نهائيٍ للتراث. وهذا مرتبطٌ بألا يحدثَ تدميرٌ للغة كما تخيلها شعراء الحداثة العربية في الستينيات أو شعراء السوريالية في فرنسا قبلهم.

يعبر الشعراء عن استمرارهم بالوجود من خلال كتابةِ الشعر، وحين يتوقفون عن الكتابةِ بشكل لا إرادي، يعرفون أنهم يقتربون من خطّ الانتحار، فهكذا انتحر رامبو الشاعر الفرنسي العبثي، انتحر أدبياً بعد أن هجر الشعر وصار تاجراً للعبيد يجمع المال من هذه المهنة تاركاً كل محاولات العبث التي أرجفت مجتمع الشعر الفرنسي وراءه، هو الذي لم يفكّر يوماً إلا بأن يكتب باحثاً عن فوضى قصيدته في فوضى روحه وحياته. رامبو الذي قتل قصيدته حين أطلق عليه صديقه فيرلين رصاصتين ليتخلّص من علاقته المشبوهة فيه، فقد مع هاتين الرصاصتين إرادته في العبث أي إرادته في الكتابة، ومثله، وإن اختلف الزمن والقصة، الشاعر الجاهلي لبيد بن ربيعة الذي هجر الشعر بعد أن قرأ سورتي البقرة وآل عمران واعتكف عن كتابة الشعر حتى مات، متنسّكاً أو ربماً خائفاً وقد نفهمها إيماناً وإن كان الأمر في سيرته مستبعداً بعض الشيء.
كثيراً ما تعرض مصطلح شعراء الشباب إلى الانتقاص والدونية ووصل بالنقاد رواد الساحة في كل مرحلة شعرية إلى محاولة تقليل شأنِ هؤلاء الشعراء حتى الرغبة بسحقهم بشكلٍ نهائي واعتبارهم عاراً على القصيدة والشعر، لكن الموضوعيين والسمحين كانوا المنافذ الواسعة لترك هذه المواهبِ الإبداعية بالخروج إلى العلن لأن روح الناس لابدّ أن تبدع وتعطي، والشعر سيرافق البشرية مهما تغيّر شكل التعبير البشري عن خبايا الروح ومكنونات النفس، فالشعر آفةُ العقل البشري والشعراء ديدنهم «العطاء». فقد كان العرب يقولون الشعر على السليقة لكن عدد الشعراء الذين حفظهم التاريخ من مرحلة الجاهلية حتى بدايات العصر الأموي مثلاً لا يتجاوز مئة وعشرين شاعراً فقط من بين كل هؤلاء، فالزمن يحفظ الجيد ويلفظ الرديء، والخطر في الشعر أن يتحول إلى أدلجةٍ تهدف إلى القتل والكراهية، فالشعر هو الهوية الأسمى للشاعر والديوان الأول لكل شاعرٍ هو بطاقة التعريف عنه، فهو يحاول جاهداً أن يتورط فيها، وكثيراً ما تراجع الشعراء عن مجموعتهم الشعرية الأولى فحذفوا محتواها، وانقادوا بعيداً عن «التأتآت» الشعرية الأولى والهمهمات التي انطلقوا بها، فسارعوا إلى دفن مولودهم الأول شكاً في نسبه أو تشوّه بنيته التي كانت هي أصلاً نتاجَ نفوسهم في مرحلةٍ ما.
يحصل التراجع الشعري في التجديد لدى الشعراء حين ينقطعون عن أمرين، الأول: مواكبة مسارات الشعر الجديد في العالم كله، القريب منهم والبعيد أي في المنظومة الشعرية العالمية. والثاني: تخلّيهم عمّا يسمّيه النقاد «التجريبية الخلاّقة». هذه التجريبية التي تمنحهم الشجاعة ليكونوا مختلفين ومحطمين للأطر التي وضعوا أنفسهم بها أو وضعهم الجمهور والنقاد فيها. فالتكريس إذن واقتناعهم به، هو المشكلة المركزية لدى شعرائنا، أو هو المرض العضال الذي يتخبّطون فيه. فخطورة التكريس توحي لنفس الشاعر وأناه المتضخمة أن يتناسى القلق.. ذاك السؤال الشعري المفتوح على مفاجآت الذات الشعرية، وما تختزنه من انفجارات إبداعية قادرة على مواجهة جمود العالم ووحشيته. كثيراً ما استسلم شعراءُ للدعة وللنهج الذي اشتقوه وسكنوا فيه حتى آخر حياتهم ولم يحاولوا أن يطلّوا على ما تكتبه الأجيال أو على طرقها المستمر على أبواب بيوتهم الشعرية الموصدة.
يبقى الشعر الذي يلمسُ الروح فلا يغادرها حتَّى وإن غادر الشاعرُ شعرَه، كثيراً ما فشلت محاولة طلاق الشعراء مع القلم فعادوا إلى «بيت طاعة» القصيدة بعد أن أعلنوا اعتزالهم، غير أن فورة الشعر لم تتركهم للمغادرة، بلند الحيدري وأدونيس قررا ذات يوم الهجرة إلى الأبد، ثم عادا، فانقلبا انقلابات مختلفة بعد أن اطلع كل واحدٍ منهم على حدةٍ على المترجم من الشعر أو دخلا التراث فامتزجا فيه، فاستنتجا منهُ لغةً مختلفةً وتطوراً مختلفاً فكانت هذه الانطلاقةُ فوزاً للشعرِ وحده دون سواه.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن