قضايا وآراء

الشعبوية الغربية تُنتج ترامب الثاني في بريطانيا

| د. قحطان السيوفي

الشعبوية والعنصرية في الغرب، أوصلتا الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية، وأدت لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واختار أعضاء حزب المحافظين الحاكم في بريطانيا وزير الخارجية الأسبق بوريس جونسون لزعامة الحزب ورئاسة الحكومة. تعهد جونسون استكمال ملف خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في 31 تشرين الأول المقبل ولو من دون اتفاق حول التحول الأكثر أهمية في القيادة السياسية. جونسون الذي يمكن وصفه في أحسن الأحوال بأنه متهور ومُثير للجدل، أصبح رئيساً للوزراء. يرأس الحزب المعارض جيريمي كوربين، الرجل المهتم أولاً بالسياسة اليسارية المعادية للولايات المتحدة.
من هو رئيس وزراء بريطانيا الجديد؟ أليكساندر بوريس جونسون صحفي وسياسي بريطاني وُلد بنيويورك لأسرة غنية من أصل تركي. عمل في الصحافة، واشتهرت كتاباته بالنقد اللاذع للاتحاد الأوروبي، وانتُقد كثيراً بسبب عدم دقة كتاباته والابتعاد عن الحقائق وترويج الشائعات. مسيرته الصحفية فتحت له باب السياسة ليُنتخب عام 2001 نائباً في مجلس العموم عن حزب المحافظين. عُين عام 2004 وزيرا للدولة، ثم اضطر إلى الاستقالة بعد فضيحة أخلاقية بعلاقة غرامية. عاد إلى الحكومة عام 2005 في منصب وزير للدولة مكلف بالتربية. عام 2008 انتخب عمدة لندن لدورتين، وعاد للبرلمان في عام 2016. قاد جونسون حملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليصبح الرئيس الرمزي لحملة «بريكست»، وتولى منصب وزير الخارجية في حكومة تيريزا ماي.
جونسون شعبوي يتعامل أنصاره مع المؤسسات البريطانية بازدراء، وهذا سبب آخر من أسباب إعجاب ترامب به. ترامب كان أول المهنئين لجونسون، ووصفه بالعظيم قائلاً: أحببت بوريس لأنه شخص مميز، ويقولون إنني أنا أيضاً شخص مميز، نحن ننسجم جيداً.
يعتبر جونسون وترامب وجهان لعملة واحدة كلاهما متشابهان بالشكل بشعر أشقر وتسريحة مميزة، وكلاهما مولود في نيويورك، وهناك تشابه في سماتهما الشخصية التي تتصف بالتهور والعنصرية المثيرة للجدل. المراقبون يرون أن جونسون نسخة بريطانية عن ترامب، أبدى جونسون إعجابه بأسلوب تعامل ترامب بالشؤون السياسية، وأضاف مازحاً إنه يريد أن تتاح له الفرصة لاستخدام تويتر كثيراً مثلما يفعل ترامب. جونسون عنصري يكره الأجانب، وصف السود بألفاظ تعود إلى حقبة العبودية في شمال أميركا. كذلك ترامب معروف بتصريحاته المثيرة التي لم يسلم منها حلفاؤه سواء في دول حلف شمال الأطلسي «ناتو» أم دول الخليج كالسعودية.
هاجم جونسون الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما بسبب أصوله الإفريقية، كذلك هاجم ترامب برلمانيات متحدرات من أصول إثنية مختلفة، ودعاهن للعودة إلى البلدان التي أتين منها. يتطابق موقف جونسون مع ترامب في الدعم المطلق لإسرائيل، حيث أكد أنه «صهيوني حتى النخاع»، واصفاً إسرائيل بأنها دولة عظيمة ويحبها، ونقل عنه موقع «ديبكا» الاستخباراتي الإسرائيلي قوله إنه صهيوني متحمس، وإن إسرائيل هي البلد العظيم الذي يحبه. بالنسبة لترامب الأمر واضح منذ اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأميركية إليها، واعترافه بسيادتها على هضبة الجولان، وصولاً إلى إطلاقه صفقة القرن. جونسون هو بطل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، يعتبر بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد سيعود عليها بخسائر كبيرة، يتفق ذلك مع وجهة نظر ترامب الذي حث بريطانيا على الخروج بلا اتفاق.
خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي من دون صفقة يعني اقتحام المجهول. قد يحاول البرلمان تفادي الخروج من دون صفقة، إذا تمت فيستطيع جونسون بعد ذلك إضافة إنجاز إلى قائمة الوعود غير المسؤولة التي كان يتفوه بها في حملته لقيادة المحافظين. المخاطر المالية كبيرة أيضاً، فيليب هاموند وزير المالية البريطاني، يشير إلى أن عدم التوصل إلى صفقة سيكلف خزانة الدولة 90 مليار جنيه سنوياً. تخفيضات جونسون الضريبية قد تكلف 20 مليار جنيه إضافية. بالمقابل كتبت هذه العبارة بالأحرف العريضة على حافلة جالت بريطانيا خلال حملة استفتاء 2016: ندفع كل أسبوع 350 مليون جنيه للاتحاد الأوروبي، الأجدى أن تذهب هذه الأموال إلى نظام الرعاية الصحية، هناك أيضاً تهديدات دستورية. هدد جونسون بتعليق البرلمان «إنهاء الدورة البرلمانية» حتى لا يكون عائقاً أمام عملية الخروج من دون صفقة. من شأن هذا أن يكون بمنزلة انقلاب تنفيذي ضد البرلمان. رئيس الوزراء الأسبق جون ميجر، هدد بأن يرفع مثل هذا الإجراء إلى المراجعة القضائية، وسيشكل ذلك أزمة دستورية.
القضية الأهم ستكون مستقبل المملكة المتحدة. «بريكست» مشروع قومي إنجليزي. انشقاق إسكتلندا المحتمل هو الأكثر وضوحاً. صحيح أن الاستقلال سيكون أكثر تكلفة بالنسبة لإسكتلندا إذا أصبحت إنجلترا خارج الاتحاد الأوروبي. قد تقرر إيرلندا الشمالية أيضاً أنها ستكون أفضل لو اتحدت مع إيرلندا والاتحاد الأوروبي. حتى ويلز قد تجد في النهاية أن احتضان إنجلترا الصغيرة لها خانق، حتى من دون تفكك الاتحاد، الصراع بين الكتل البريطانية الأربع حول الصلاحيات المنقولة من الاتحاد الأوروبي حتماً سيكون قوياً. أحد الاحتمالات أن بريطانيا ستتبع أميركا ترامب الأحادية الغارقة في الأنا، التي من المحتمل أنها أحد أعداء الاتحاد الأوروبي.
بالمقابل الخروج سيعني الاستغناء عن موظفين وعمال، وارتفاع أسعار السلع، وخطر احتمال بيع جهاز الصحة الوطنية إلى شركات أميركية، في صفقات تصالحية مع ترامب. السؤال: ما الذي سيفعله جونسون في الأزمة المشتعلة مع إيران عقب احتجاز ناقلة النفط؟ هل سيكون موقف بريطانيا أقرب للولايات المتحدة، ومن ثم تصعيد الأزمة إذا قرر البرلمان رفض قرار المغادرة من دون التوصل إلى اتفاق، قد يواجه جونسون انتخابات عامة مبكرة، وإذا خسرها ستكون إيذاناً بانتخاب ثالث رئيس وزراء هذا العام؟
المشهد البريطاني يُثير تساؤلات عديدة، ماذا سيبقى من بريطانيا بعد «بريكست»؟ هل ستظل متحدة؟ ما نوع الدور الذي يمكن أن تلعبه في أوروبا والعالم؟ لا أحد لديه إجابات عن هذه الأسئلة. الواقع يشير إلى أن المملكة المتحدة التي يعرفها العالم، مستقرة، ولت إلى الأبد. جونسون الذي أوصلته الشعبوية والعنصرية ليكون بمنزلة ترامب الثاني في لندن، يتحدى بأسلوبه المعتمد على الحكم الشخصي الكارزمي، منظومة الديمقراطية التمثيلية التي حكمت بريطانيا منذ عام 1688، بل قد يأتي عليها تماماً ويدمرها، أخيراً تدخل بريطانيا العجوز مرحلة من عدم الاستقرار. وربما يكون ذلك ما دفع رئيس وزراء بريطانيا الأسبق غوردان براون للقول إن جونسون قد يكون فعلاً آخر رئيس وزراء يحكم بريطانيا.

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن