«الطريق إلى الشمس»… سموّ الفكرة وبحث عن الاستعراض
بثينة البلخي- «ت:طارق السعدوني»
في عرض «الطريق إلى الشمس» الذي احتضنته دار الأوبرا على مدى ثلاثة أيام من الأسبوع الماضي لا نبالغ إن قلنا إن الصوت الملائكي لبطلة المسرحية ميثا /نورا رحال/، وكلمات الأغاني التي أدتها بإحساس راق مفعم بالمحبة والانتماء للوطن كانا الحامل الأساسي لعرض فكرته عادية أو ربما أقل، ليتمكن من التغطية على مواقع رديئة من العرض كادت تجعله عاديا جدا.
الهدف السامي للعرض الذي تجلى في حث السوريين على أن يتخذوا من رموزهم النضالية على مر تاريخ بلدهم العريق قوة لهم ليكونوا طريقا إلى الشمس، كان واضحاً منذ اللحظات الأولى التي سلط فيها الراوي «كفاح الخوص» بصوته الرخيم وأدائه المتقن، الضوء عليه، وأتت فيما بعد بقية سرد الأحداث تخدم هذا الهدف لكن ليس بالقدر المتوقع، على الأقل قياسا بالحملة الإعلانية التي سبقت العرض وروجت له.
الثنائيات الغنائية تنوعت بين معبرة مترعة بالإحساس، كلماتها موحية عميقة -لكنها بقيت أقل قدرة على الجذب من الأغاني التي أدتها رحال- وبين عادية مقحمة بلا معنى، فيما بدا أنها لم توظف بالشكل الأمثل، لكن العاشقين زهرة /ميس حرب/ وأسعد /حسين عطفة/ أبدعا بصوتهما الدافئ وإحساسهما العالي، ليحيكا قصة حب رصدت أحلام الشباب الضائعة فيما شكل إسقاطا على الحالة الراهنة لكثير من شباب اليوم الذين ضيعت الحرب أحلامهم في الزواج والاستقرار.
ينبغي القول هنا: إن موسيقا طاهر مامللي الساحرة خلقت عامل جذب مهماً، لتستطيع شد الأسماع على مساحة مدة العرض التي تجاوزت الساعة ونصف الساعة تقريباً، فتغطي بدورها أيضاً رقصات لم تكن متقنة الأداء بسبب غياب التناسق الحركي بين الراقصين والراقصات، والتي كان من الممكن أن تشكل رؤية بصرية جميلة لو أنها حققت التناغم بين الأجساد الجميلة التي من المفترض أنها عامل أساسي في عمل استعراضي، لكن الحق يقال إن تجربة السوريين في هذا النوع من الأعمال – المسرح الغنائي الاستعراضي- بسيطة جدا، وهو ما يجعل العمل مقبولا إلى حد ما من هذه الناحية.
بالحديث عن الإطار التاريخي الذي حاول كل من معد النص المسرحي كفاح الخوص والمخرج ممدوح الأطرش رسم العرض ضمنه، فقد عانى بدوره من إشكالية الإقحام لروايات تاريخية بدا أن العرض أراد الاتكاء عليها برمزيتها العظيمة في ذاكرة السوريين، حال المشهد الذي أطل فيه سلطان باشا الأطرش –أحد أهم رموز النضال السوري- يستلهم من والده عزيمة استمرار النضال حتى الحرية، وهو ما يحتاج السوريون اليه اليوم ليمضوا نحو الهدف ببناء بلادهم حرة مستقلة، لكن المشكلة أن هذا الإقحام لم يكن مجديا، أو ربما كان من المفروض الاعتناء بالسياق التاريخي أكثر، حتى لا يظهر استخدام الرمز التاريخي بهذه الفجاجة.
بالمقابل جاء الاستخدام الرمزي لحكاية البطل يوسف العظمة، أكثر عمقا في التوظيف لكن يشوبه ضعف التنفيذ، عبر تصوير فرنسا من خلال برج إيفل الذي يعتليه الجنرال غورو رمزا مصيره الأفول أمام عزيمة العظمة وجنوده، فبينما يغيب البرج عن خشبة المسرح تبقى العظمة الشمس المشرقة التي يتطلع معد النص ومخرجه إلى أن تكون إحدى الشموس التي ستلهم السوريين إلى طريق خلاصهم.
كان لتقنيات الإخراج حضورها الجذاب، الذي أبهر الجمهور في بعض المواقع ليصفقوا بحرارة للمعاني العميقة التي وصلتهم، ودغدغت أفكارهم التي يكاد كل السوريين يشتركون فيها أمام مصابهم بحرب أنهكتهم جميعا، فعلى سبيل المثال شكل مشهد العرس –رغم ضعف الإضاءة- لوحة ساحرة، بما اختاره المخرج للعروس /زهرة/ من علو ومساحة كبيرة للبياض، الرامز للفرح الذي ينتظره أبناء الوطن ويتحلقون حوله بأمل، بينما يحاول العدو أن يسرقه منهم، إذ ينتهي المشهد بتحليق للطيران الذي يقصف المكان، فيسمو بعده الأبيض في أعالي المسرح ليبقى معلقا بين السماء والأرض، كحبل أمل يستحيل بحيرة من نور يسبح فيها /أسعد/ الذي يعاهد بالثأر لعروسه، في مشهد يتكرر اليوم كثيراً في حياة السوريين بإسقاطات شتى.
ينتهي العرض باستعراض لأبطال الثورة السورية، فتتواتر صورهم متناغمة مع تصفيق الجمهور الذي بدا كأنه ينشد اليوم مثلهم مخلصين له من أزمته، ويختتم المخرج صورهم بالشمس، فيطل طفل صغير هو النهاية الأجمل حين ندرك أنه البداية البريئة المترعة بالحب والقدرة على أن يكون هو دون زيف ليمضي في دحض كل كذب وكل طارئ على التاريخ أيا كان، وهو الشرط الذي وضعه الراوي الخوص للوصول إلى الشمس، كما يقول عنوان العرض.
بالمجمل فإن العرض تراوح بين الجيد والعادي، ولا يمكن النظر إليه كسلة واحدة، فقد تنوعت عناصر جذبه التي كان أبرزها الموسيقا والأغاني وأداء الفنانين لاسيما نورا رحال، وتقنيات الإخراج التي شكلت رؤية بصرية جميلة، بينما شابه بعض المواقع الرديئة، كالفكرة العادية، والحبكة الغائبة، والأداء الاستعراضي غير المتقن، وعليه فإن تأثيره مرهون بأصحاب المشاعر الوطنية الجياشة، الذين سيتأثرون تحت وطأة أحاسيسهم، أما في حسابات العقل، فإن العرض لم يكن قادرا على مخاطبته، ويبقى جمال الهدف الذي يسمو إليه، ومساحة الحب التي خلقها بكلماته وموسيقاه هما ما منحه ألقا فنيا راقيا.