ثقافة وفن

قلاع صممت لمقاومة أي هجوم تتعرض له البلدان … «قلعة سكرة»… شاهدة على عمارة العصر الأيوبي

| المهندس علي المبيض

يبدأ فهم التاريخ من هذه البقعة من العالم أي من بلاد الشام، فتحت كل حجر في سورية يوجد أثر وتحت كل خطوة تمشيها في المناطق السورية كافة هنالك كنز حقيقي ينتظر من ينفض الغبار عنه، في سورية يفهم الإنسان كيف أن التاريخ ينطق الحجر ويعرف من يزور سورية كيف يفرض التاريخ نفسه بقوة وبشكل مباشر، ويلاحظ الزائر الملامح التاريخية بسهولة وهو يتنقل بين المحافظات السورية ويشاهد تلك المعالم التاريخية والمباني الأثرية بل يكفي المرء أن يتجول في سوق البزورية – على سبيل المثال- ويتنقل بين محال السوق ويزور قصر العظم وخان أسعد باشا وخان التتن ليلمس بيده التاريخ ويستنشق عبق أريجه، يكفي أن يزور تدمر ليسمع بأذنه صوت الملكة زنوبيا تلك الشخصية الأسطورية وهي تخطب في الجيش خطاباتها الحماسية وتثير لديهم الحميّة وتستنهض الهمة والعزة بين أفراده، وزيارة لمدينة عمريت وجولة سريعة ضمن رواق المعبد تكفي لتستمتع بسيمفونية العشق والخصب والمطر، وزيارة خاطفة لقلعة حلب كافية لتحضر مجالس الفلاسفة والعلماء وتلتقي بأبي الطيب المتنبي وأبي فراس الحمداني وتشاهد جموع الأدباء والشعراء وهم يتنافسون في إلقاء القصائد العصماء في حضرة سيف الدولة الحمداني.

مازلنا نبحر في ذاكرة الحجر والإنسان تلك الرحلة التي بدأناها منذ أكثر من عام من خلال مقالاتنا الأسبوعية التي نهدف من خلالها لبيان الدور الريادي للسوريين في الحضارة الإنسانية ولنستنتج في النهاية أن التراث السوري بمفهومه الواسع هو الأرضية المشتركة بين السوريين بجميع شرائحهم وهو العروة الوثقى والرابطة التي توحد آمالنا وآلامنا، وهو معقد الآمال والثقة في هزيمة مشاريع التفتيت والتقسيم التي تستهدف شخصية الأمة وهويتها وتاريخها قبل أن تستهدف حدودها وجغرافيتها، وسورية اليوم هي سورية الأمس- سورية التاريخ والحضارة– سورية بداية كل الحضارات التي نشأت فيما بعد.
ومن خلال مقالاتنا التي نستعرض بها القلاع والحصون يتساءل بعض السادة القرّاء فيما إذا كان هناك فرق بين القلعة والحصن أم هما مرادفتان لمعنى واحد؟ فنبين أن هنالك فرقاً بين القلعة والحصن نذكر فيما يلي بعضاً منها:
تُعرّف القلعة بأنها بناء ضخم منيع ومحصّن بُني قديماً من الحاكم أو شخص صاحب مركز مهم بالمجتمع أو ثري لحماية الناس بداخله وهو مبني بجدرانٍ سميكةٍ ويضم أبراجاً ومستودعات للذخيرة والمواد الغذائية ومباني سكنية وخدمية وغالباً ما كانت تحاط القلاع بخنادق لتشكل عائقاً طبيعياً بهدف إعاقة الهجوم عليها كما أنها تحتوي على فتحات في أعلى الجدران والأبواب بهدف إطلاق السهام من خلالها أي إن القلاع مساكن ضخمة ومحصّنة بجدرانٍ قوية ومنيعة للحماية من الهجمات وكانت تعتبر بمنزلة مركز حماية ومركز عسكري وإداري ورمز للثروة والسلطة.
أما الحصن فيُعرف بأنه مبنى عسكري محصّن صُمّم لمقاومة أي هجوم وهو عبارة عن منطقة مُحاطة بجدار منيع ويوجد فيه الجنود، وعادةً ما يكون الحصن ضمن موقع إستراتيجي، وتختلف الحصون عن القلاع في أنها مبان محصنة عسكرية وليست مساكن، وقد بُنيت هذه المباني تحديداً في أوقات المعارك فقط بهدف الدفاع عن أقاليم محددة ومن الممكن أن تقام الحصون بشكلٍ دائم أو مؤقت ويعود تاريخ الحصون إلى آلاف السنين ويذهب بعض الباحثين إلى أن بناء الحصون قد سبق بناء القلاع، ويضاف إلى ذلك أن طرازها المعماري قد تطور مع تطور الأسلحة المستخدمة في المعارك ومجيء المدافع والمتفجرات حيث تحسنت قدراتها الدفاعية مع التقدم العسكري الحاصل.
وفي سياق حديثنا عن القلاع والحصون السورية نستعرض اليوم:
قلعة رحبة مالك بن طوق: وهي قلعة أثرية مهمة تقوم فوق تل مرتفع على حافة وادي الفرات الجنوبية اقتطع من الحافة المذكورة بعد حفر خندق حول القلعة، لم يتحدث باحث عن تاريخ منطقة الجزيرة أو آثار الفرات إلا ذكر لمحةً عنها فهي تحتل جزءاً كبيراً من الذاكرة الشعبية والمخزون الثقافي لأبناء المنطقة خاصةً وللمؤرخين عموماً وهي تقع بالقرب من مدينة الميادين التي تبعد عن دير الزور مسافة 40 كم وسميت القلعة بالاسم القديم لمدينة الميادين التي كانت تسمى قديماً رحبة مالك بن طوق، وينحدر السكان الأصليون للميادين من هذه القلعة لذلك نجد بعض الأهالي يكنون أنفسهم بـالرحبي أو القلعيين وبالمناسبة فإن الميادين أنشأها مالك بن طوق التغلبي في زمن الخليفة العباسي هارون الرشيد حيث كانت تعرف باسم رحبة مالك بن طوق، تعرضت الميادين في عام 1257م لزلزال مدمّر فانتقل السكان إلى مكان القلعة، وتنسب القلعة أيضاً إلى مالك بن طوق التغلبي وذلك عندما عينه الخليفة العباسي المأمون والياً على الجزيرة السورية حيث قام بإعادة بناء الأجزاء المتهدمة فيها وترميمها وتجديد ما هو متداع منها ويعتقد بعض الباحثين أن تاريخها يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد أسوةً بجارتها مدينة ماري ودورا أوروبوس وأنها قد بنيت مكان حصن قديم كان يستخدم مركزاً لمراقبة المنطقة والسيطرة عليها، واستخدمتها كل الشعوب التي استوطنت المنطقة منتقلة من عهد حكم إلى عهد آخر، من العباسيين إلى الحمدانيين والقرامطة والسلاجقة والأيوبيين وبقيت القلعة مسكونة حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي إلى أن هجرها ساكنوها إلى الميادين.
وتل القلعة مفصول عن البادية بخندق عميق يصل عرضه إلى 20 م والقلعة محاطة بسورين أحدهما خارجي مؤلف من خمسة أضلاع أطوالها مختلفة، أطولها الضلع الجنوبي المطل على البادية، والسور الآخر داخلي وهو مبني من الحجارة الكبيرة ومؤلف أيضاً من خمسة أضلاع أطولها الضلع الغربي الذي يبلغ طوله 50م ويتوسط القلعة حصن شيّد في القرن السابع الهجري وتتكون القلعة من الداخل من ثلاثة طوابق يضم الطابقين الأول والثاني المستودعات الكبيرة أما الطابق السفلي فقد خصص لخزان تجميعي لمياه الأمطار الذي تنقل إليه المياه بواسطة أقنية خاصة.
أبراج باغوز: قليلة هي الدراسات والأبحاث التي أجريت على هذه الأبراج بالمقارنة مع غيرها ويعود تاريخها إلى الفترة التي قامت فيها مملكة مدينة ماري وتقع فوق جبل الباغوز المطل على مدينة البوكمال من شمال وادي الفرات مباشرة حيث تنتصب ثلاثة أبراج أثرية لا تزال الأدراج الداخلية لأحدها سليمة أما الاثنان الآخران فمتهدمان.
قلعة سكرة: تقع قلعة سكرة إلى الغرب من مدينة الحسكة على بعد نحو كم، وهي قلعة قديمة قائمة في أواسط جبل عبد العزيز تروي تاريخ حضارة عريقة قامت على هذه الأرض الطيبة وهي قلعة قديمة تم ترميمها في العصر المملوكي ولا تزال آثارها باقية تخبر الأجيال أن التاريخ مرَّ من هنا، ويرجح بعض الباحثين أن تاريخها يعود للفترة الأيوبية أي في القرن الثاني عشر الميلادي وذلك حسب أسلوب بنائها وطرازها المعماري واستناداً لبعض اللقى الفخارية التي تم العثور عليها في باحة القلعة، تم استخدام القلعة حامية عسكرية صغيرة للقوافل العسكرية والتجارية وكان الهدف منها مراقبة السهل الشمالي لجبل عبد العزيز وعين للدولة على الممر الوحيد في هذا الجبل، ويميل بعض الباحثين أن القلعة خصصت لأعمال دفاعية محضة وأنه لا يمكن تصنيفها على أنها قلعة محصنة ومنيعة مثل بعض القلاع في سورية كقلعة حلب التي تضم مساكن ومستودعات للذخيرة والسلاح والمواد الغذائية والمرافق الخدمية بل هي نقطة مراقبة مهمة الغرض من إنشائها التحكم بالممر الجبلي الذي يقسم الجبل من الشمال إلى الجنوب، وهذا الممر على ما يبدو كان صلة الوصل بين السهل الشمالي والسهل الجنوبي.
بنيت القلعة فوق أحد المرتفعات العالية من جبل عبد العزيز وهو مرتفع طبيعي محصن ذو انحدار شديد من كل الجوانب، ما يشكل مع المرتفعات المجاورة المحيطة به، أودية سحيقة تزيد على 300 م تحيط بها من كل الجوانب، تبلغ مساحة القلعة نحو 10000م2 أرضيتها صخرية من الحجر الكلسي الأصفر وتحتوي على أربعة خزانات مياه منحوتة في الصخر لتجميع مياه الأمطار واستخدامها في الفصول التي يشح فيها الماء، يحيط بالقلعة سور خارجي تتوضع عليه بقايا لأربعة أبراج مبنية من الحجر الكلسي تبرز زخارف هندسية جصية نقشت على أحد أبراجها نقوش إسلامية واضحة تتراوح أبعاد المداميك المبنية من 20 إلى 40 سم وهو متهدم كلياً ولم يبق منه سوى بقايا أساسات غير واضحة لا تعطي أي معلومات عن أبعاده وشكله ومظهره الذي كان عليه السور في الماضي، في عام 2007 قامت المديرية العامة للآثار والمتاحف بترميم وتدعيم أساسات الأبراج وإعادة بناء أجزاء من جدرانها وتم تنفيذ درج في الجهة الجنوبية الغربية منها محاطاً بسياج معدني ومقاعد من أجل سهولة وصول الزوار إلى القلعة.
مستشار وزير السياحة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة الوطن