«أعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده. وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد لإفادة الكلام، فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان. وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم». هذا تعريف للّغة من عالم الاجتماع عبد الرحمن بن خلدون. وفي العادة تعرّف اللغة بأنها مجموعة من الأصوات المنطوقة والتي يستخدمها الإنسان للتعبير عن أفكاره ومشاعره، وللتفاهم والتواصل مع أعضاء جماعته التي يعيش فيها، واللغة هي من أهم وسائل التواصل والتفاهم بين الأفراد في المجتمع، وبالطبع لكل مجتمع أو جماعة لغة خاصة بها. وفي بحثنا هذا هناك الكثير من الأفكار والفصول التي جمعها لنا د. عيد مرعي في مؤلفه(تاريخ لغات المشرق العربي القديم-اللغات السامية)الصادر عن الهيئة العامة للكتاب، وهو الكتاب من القطع الوسط بواقع مئتين وثمانٍ وثمانين صفحة، مقسما إلى أربعة فصول.
في الفكرة
لم يخص د. مرعي في هذه الدراسة، تفاصيل قواعد كل لغة من لغات المشرق العربي القديم، مشيراً إلى أن أمرا كهذا يحتاج إلى جهود عدد كبير من المختصين بهذه اللغات، وإلى مجلدات ضخمة وكثيرة، بل اكتفى المؤلف بإعطائنا لمحة موجزة عن تاريخ كل لغة ومناطق انتشارها وزمن استخدامها، والوثائق المكتوبة بها والمكتشفة حديثا مع تقديم نماذج منها مكتوبة بالحرف العربي مقرونة بترجمة لها، وإيراد مجموعة من كلماتها، «كان قصدنا من وراء ذلك إعطاء صورة صادقة عن تاريخ تلك اللغات وفكرة موجزة عن خواصها وصفاتها، وإبراز درجة قرابتها من اللغة العربية، كل ذلك بعيداً عن التعصب والتطرف واللاموضوعية».
بعيداً عن التعصّب
صدرت منذ أكثر من قرن من الزمن دراسات كثيرة عن لغات المشرق العربي القديم(اللغات السامية)، وبلغات أجنبية متعددة، إنكليزية وألمانية وفرنسية وإيطالية وروسية وغيرها، وتُرجم بعضها إلى اللغة العربية. ويضيف د. عيد مرعي في مقدمته بأنه حتى الآن لم تصدر إلا دراسات قليلة جداً باللغة العربية حول هذا الموضوع، على الرغم من أهميته وصلة هذه اللغات القوية باللغة العربية، ويتابع»ثم إن عدد الذين تخصصوا بهذه اللغات من العرب قليل جداً بالمقارنة مع عدد المختصين في هذا المجال في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية. وإن بعض من يحاول دراسة هذه اللغات القديمة من العرب يتناولها من زاوية تعصبية تقول إن اللغة العربية هي أصل هذه اللغات، دون أن يكون لديه إلمام بتاريخ هذه اللغات أو اطلاع على مبادئها وقواعدها وتصريفاتها، أو يعتمد في ذلك على بعض الروايات والآراء الدينية القديمة التي لا ترتكز على أي أساس علمي. ومن ثم فإن هذه الدراسات شوهت أفكار القرّاء عن تلك اللغات القديمة التي يمكن القول عنها أنها تمثل جذور اللغة العربية». متابعا بأن هذا الأمر لم يتوقف عند ذلك بل شارك في التشويه كثير من الهواة الذين لا يعرفون شيئاً عن أصول البحث اللغوي والتاريخي، فوضعوا مؤلفات أساسها التعصب الديني أو القومي، وفرضوها على المستمع أو القارئ أو المشاهد من خلال وسائل الإعلام المسموعة والمرئية ووسائل الاتصال الحديثة المختلفة بما لهم من سطوة ونفوذ. وكانت النتيجة تشويه كل ما هو جميل ومفيد في تاريخنا القديم الضاربة جذوره في أعماق الزمن.
في الفصول
كما أشرنا أعلاه بأن كتاب(تاريخ لغات المشرق العربي القديم-اللغات السامية)يضم أربعة فصول تحكي عن تاريخ اللغات القديمة واللهجات السامية وآدابها التي انتشرت في جميع مناطق المشرق العربي منذ الألف الثالث قبل الميلاد حتى القرون الميلادية الأولى كالأكادية والإبلوية والأوغاريتية والفينيقية وكنعانية العهد القديم والآرامية والسريانية ولهجات العرب الشمالية والجنوبية، مع عرض نماذج من نصوصها، مبيناً البحث مدى ارتباط أو تشابه أو تطابق قواعد ومفردات هذه اللغات واللهجات مع اللغة العربية التي تمثل وعاءً كبيراً انصهرت فيه جوانب كثيرة من هذه اللغات واللهجات، ومن ثم تصبح دراستها ذات فائدة كبيرة لدراسة تاريخ اللغة العربية وقواعدها وآدابها.
مع الإشارة إلى أن اللغات التي عرفها الإنسان منذ نشأته على سطح الأرض تقسم إلى مجموعات، بناء على أوجه التشابه فيما بينها ويتابع د. مرعي بأن المجموعات اللغوية العالمية المعروفة هي:
مجموعة لغات المشرق العربي القديم(السامية) موضوع هذه الدراسة وهي لغات انتشرت في بلاد الرافدين وسورية القديمة وشبه الجزيرة العربية في العصور القديمة.
مجموعة اللغات الحامية وهي التي سادت في القارة الإفريقية في العصور القديمة، كالمصرية القديمة والصومالية والأمازيغية وغيرها.
مجموعة اللغات الهندو أوروبية وهي تلك التي انتشرت في المنطقة الممتدة من الهند إلى أوروبا كالسنسكريتية ولغات الهند القديمة والفارسية وغيرها.
مجموعة اللغات التركية-المغولية وهي تلك التي انتشرت في أواسط آسيا وأشهرها التركية المغولية.
مجموعة اللغات الصينية التيبيتية وهي تلك التي انتشرت في الصين وجنوب شرقي آسيا وأشهرها الصينية والتيبيتية والكورية.
مجموعة لغات الهنود الحمر في أميركا الجنوبية ومنها لغات المايا والأزتيك.